لان لبنان ليس من الدول الاسكندنافية، فإن الزعم أن التظاهر حق مقدس، يخلو في معظم الاحيان من القداسة، ويصبح رجسا من عمل الشيطان ينبغي اجتنابه، مهما خلصت نوايا المتظاهرين وارتقت مطالبهم وشعاراتهم.. كما يثبت الفكرة القائلة انه اذا ما اجتمع لبنانيان وكان الشأن السوري أو الفلسطيني شاغلهما، حتى ينتهي الاجتماع بمذبحة.
في الدول الاسكندنافية، يمكن في أي يوم أن تخرج تظاهرة معارضة وتقابلها تظاهرة مناهضة، فينتهي الامر بالتراشق بالبيض والبندروة وحجز بعض المشاغبين من الفريقين في السجن لمدة ساعات، أو ربما لدقائق.. هي بالتحديد الفترة الزمنية التي يحتاجها المشاركون في تظاهرتين لبنانيين متعارضتين لإشعال حرب أهلية تمتد لسنوات وربما لعقود.
لبنان هو البلد العربي الوحيد الذي لا تعطل مؤسساته ودوائره وأعماله يوم الجمعة، ولا يقلق نظامه من أيام الجمعة المقدسة، ولا يترقب شعبه ذلك اليوم الذي بات موعدا ثابتا للغضب والتحدي والتصدي ثم الرحيل.. لذلك فإن دعوة حزب التحرير الى تظاهرة اليوم في طرابلس دعما لثورة بلاد الشام، تبدو في المقام الاول افتئاتا على الجغرافيا والثقافة والتجربة اللبنانية العريقة بالفعل التي كانت تظاهراتها في الغالب تنظم أيام الاثنين، اذا كانت عمالية أو نقابية أو طلابية، أو أيام الاحد، اذا كانت نخبوية أو ثقافية أو سياحية.. على ما توحي به مسيرات الشبان والشابات المنادين بإسقاط النظام الطائفي، والمقلدين لأشقائهم التونسيين والمصريين..
هذا في الشكل، أما في المضمون، فإن تظاهرة حزب التحرير المقررة اليوم في طرابلس الشام، هي مس خطير بالامن الداخلي الذي لا يحتمل مثل هذا الاختبار.. ويدل على ان الحزب التاريخي لا يزال يقطع صلته مع الواقع ولغته التي لا تتسامح مع فكرة إحياء الخلافة الاسلامية ولا تسمح بها، كما لا تتساهل مع فكرة اختيار ثورة بلاد الشام تحديدا، من بين بقية الثورات العربية، موضوعا للتظاهر والتضامن حتى داخل مسجد، أو ربما بالتحديد لأنها تنطلق من داخل مسجد.
الانقسام اللبناني عميق جدا حول ما يجري في بلاد الشام. هذا كان تاريخ لبنان وتقليده منذ القدم. وما يدور في الغرف اللبنانية المغلقة، أو في التصريحات المعلنة، أو في النوايا المبيتة، لا يخفى على أحد ولا يمكن إلا ان يكون سببا لاشتباك محلي يزداد ترجيحا يوما بعد، ويبعد احتمال نجاح أي علاج نفسي للبنانيين، الذين يتوجسون من تظاهرة طرابلس اليوم، ويعتبرون انها الشرارة الاولى، التي سيعقبها حريق هائل.
منع التظاهرة للحؤول دون تنظيم تظاهرة مضادة في طرابلس الشام، ليس عملا حكيما، لأنه يمكن ان يؤدي الى التطرف وربما العنف من جانب المتظاهرين على اختلافهم، لكن الحكمة اللبنانية الوحيدة في هذه المرحلة تقتضي ألا يدعي أحد أن لبنان قريب للدول الاسكندنافية، وألا يجادل احد في الحاجة الى فرض الصمت المطبق على اللبنانيين جميعا.. حتى ولو تحولت مـناماتهم السورية المتناقضة الى كوابــيس تــؤرق ليل كل واحد منهــم، بدلا من ان تحرم البلــد كله من الـنوم.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك