من الواضح أن "حزب الله" يرفض الإقرار بالتحولات الكبرى التي حصلت في لبنان وسوريا، ويتصرّف وكأن ميزان القوى الذي انكسر ما زال هو نفسه. وهذا الإنكار مرده، إما لعدم قدرته على استيعاب الضربة وهضمها، وإما الحفاظ على تموضعه بانتظار المواجهة أو التسوية بين واشنطن وتل أبيب، وإما الحفاظ على وضعيته داخل الدولة بمعزل عن التطورات الخارجية، وإما التحوّل من قوة تخريب عسكرية إلى قوة تخريب سياسية تمهيداً لفتح معركة النظام السياسي.
لن يتمكّن "حزب الله" من التعايش مع الوضعية الجديدة التي دخلها لبنان، وهو يحاول الحدّ من خسائره، لكنه عاجلاً أم آجلاً سيصطدم بهذه الوضعية لثلاثة أسباب أساسية:
السبب الأول وطني، إذ سيجد نفسه غريباً عن مشروع يتقدّم على حسابه، ولا يستطيع التأثير على مساره في ظل إجماع مسيحي وسني ودرزي، وفئة وازنة من الشيعة، على ضرورة السير قدماً في مشروع الدولة وإنهاء رواسب لبنان الساحة. فلم يعد باستطاعة "الحزب" فرملة قطار الدولة بعد هزيمته العسكرية وتوقيعه على اتفاق أنهى دوره المسلّح وقطع شريان إمداده العسكري من إيران. وما لم يتكيّف مع هذا الواقع فإنه سيصبح محاصراً وبلا فعالية.
السبب الثاني شيعي، حيث ستتحوّل مواجهته من وطنية للإطباق على الدولة، إلى مواجهة داخل بيئته سعياً للحفاظ على إطباقه على التمثيل الشيعي، خصوصاً بعد أن وجدت القوى والشخصيات الشيعية المناهضة له فرصة لكسر احتكاريته بعد زوال عامل الخوف من السلاح. وبالتالي، وفي الوقت الذي كانت فيه سيطرته على طائفته مطلقة ومحسومة ويواجه مربعات الاعتراض على مساحة الوطن، ستتراجع مواجهته إلى داخل مربعه المذهبي على وقع دينامية لا يستهان بها في طائفة مليئة بالنخب والطاقات والحيوية.
السبب الثالث دولي، في ظل قرار أميركي بإنهاء الأزمة اللبنانية عن طريق منع إيران من التدخُّل في شؤونه، وتوفير مقومات الدعم للدولة من أجل أن تتمكّن من بسط سلطتها على كامل الأراضي اللبنانية. ولن يتمكّن "حزب الله" هذه المرة من مواجهة التصميم الدولي بفعل الخسارة التي مني بها محوره على أثر حرب "طوفان الأقصى". كما ان المواجهة تحولت مع إيران نفسها التي سيتم تخييرها بين التخلي عن مشروعها التوسعي، وبين إسقاط نظامها. وبالتالي، ومع تعطُّل محرِّك الحزب الأساسي في طهران، فقد "الحزب" عنصر قوته الأساسي.
وعليه، أصبح "حزب الله" مطوقاً وطنياً وشيعياً ودولياً، وعاجزا عن فك هذا الطوق، وفي وضعية تراجعية أمام دولة ستواصل تقدمها مدعومة شعبياً ودوليا، وحالة شيعية خرجت من القمقم ولن يتمكّن من إعادتها إليه. وبالتالي، هل هو على استعداد لأن يذوب في مشروع الدولة وينخرط في الحياة السياسية تحت سقف الدستور، أم أنه سيتمسّك بمشروعه وخطابه وسرديته؟ وهل سيتقبّل وضعه الجديد ولو على مضض، أم أنه سينتفض عليه وينقلب؟ وكيف؟
ما هو ظاهر لغاية اليوم ، أن "الحزب" ما زال يرفض الاعتراف بواقعه الجديد، ولا يسعى إلى التمهيد لخطاب جديد، ولا إلى مراجعة سياسية، ولا الدعوة إلى تسوية تاريخية، وما زال يخطئ التقدير. وكما أخطأ في الدخول في حرب الطوفان، وأخطأ في عدم الخروج منها في الوقت المناسب، يخطئ اليوم بثلاثة رهانات في غير محلها:
يراهن أولاً على نجاح النظام الإيراني في عبور الصحراء، فيما أي قراءة موضوعية تفيد أنه لن يتمكّن من ذلك، لأن نتنياهو المدعوم من ترامب لن يوقف الحرب قبل أن يتخلّص من التهديد الإيراني بشقّيه التوسعي والنووي. وما لم يفعل ذلك، فإن إيران ستعيد تخصيب أذرعها في غزة ولبنان وسوريا. وبالتالي، لا خيار أمامه سوى القضاء على التهديد الإيراني بشكل كامل، وهذا ما سيحصل.
يراهن ثانياً على المجهول والقدر والمفاجآت كـ"المعلّق في حبال الهواء"، أي أنه يراهن على أحداث غير منظورة ولا متوقعة تُثني إسرائيل عن متابعة خطتها المدعومة من الولايات المتحدة، وهذا دليل إفلاس وعقم فكري يمنعه من الاعتراف بالوقائع واعتماد مقاربة جديدة.
يراهن ثالثاً على مواصلة سيطرته على الدولة العميقة العسكرية والقضائية والأمنية والإدارية، بما يخوِّله الحفاظ على وضعيته. ويتعامل مع تشكيل الحكومة كبروفة وعيّنة للطريقة التي سيتبعها في التعيينات والملفات والاستحقاقات. لكن أي تفكير من هذا القبيل هو وهم، ولأن من يخسر مشروعه وسلاحه سيفقد تدريجاً المواقع التي يسيطر عليها.
إن رهانات "حزب الله" ستصطدم عاجلاً أم آجلاً بالمسارات الدولية والوطنية والشيعية، وستدفعه للانتقال من السيطرة على الدولة السابقة، إلى قوة تخريبية للدولة الحالية التي بدأت معالمها تتظهّر وتترسّخ مع اتفاق وقف إطلاق النار وسقوط النظام السوري وانتخاب العماد جوزاف عون وتكليف الرئيس نواف سلام.
انطلق قطار الدولة بدعم طائفي وشعبي ودولي. وإذا لم يلتحق "حزب الله" به، ولن يلتحق، فيعني انه سيلجأ إلى تخريبه وترك بصمته التخريبية في كل جولة من جولاته بانتظار الظروف التي تمكنه من التخريب الشامل والذي لا يعني تكرار 7 أيار باستخدام سلاحه، لأن قوته المسلحة انتهى دورها، إنما التخريب السياسي بالعرقلة والتعطيل وتوسُّل الأهالي لتنفيذ أجندته بالفوضى. والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف يفترض مواجهة مخطّط "الحزب" التخريبي؟
يخطئ من يعتبر أن التراجع عن شروط الدولة يؤدي إلى استيعاب "حزب الله" ويحوِّله من قوة تخريب إلى قوة تسهيل، لأنه بتكوينه لا يمكن أن يكون سوى قوة تخريب لكل ما يتصل بالدولة والاستقرار. وبالتالي، يخدم التراجع عن سقف الدولة والدستور مشروع "الحزب" ويسيء إلى مشروع الدولة. وبالتالي، لا خيار سوى مزيد من التشدُّد في تطبيق الدستور على غرار أي دولة في العالم. ووفقاً لردة فعل "الحزب" يبنى على الشيء مقتضاه.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك