فجّر الرئيس الأميركي دونالد ترامب العائد بقوة إلى البيت الأبيض قنبلة مدوية قد تطال شظاياها منطقة الشرق الأوسط برمتها، والتي تتحرك أصلاً فوق "صفيح ساخن" وتشهد تحوّلات جذرية. فترامب وبعد إطلاق طرحه بنقل فلسطينيي قطاع غزة، الذي بات منطقة غير قابلة للعيش ومدمّرة بنسبة 90 في المئة، إلى مصر والأردن، ردّ بحزم على رفض الدولتين استقبال الغزيين بالقول حرفياً وتكراراً: "سيفعلان ذلك، لقد فعلنا الكثير من أجلهما، وعليهما فعل ذلك".
طرح سيّد البيت الأبيض "التطهيري" ينطلق من أن فلسطينيي القطاع المنهكين هم بأمسّ الحاجة للانتقال إلى مناطق "أكثر أماناً" على غرار مصر والأردن، حتّى أن بعض التقارير تحدّثت عن وجهات أخرى مطروحة أميركياً لاستقبال الفلسطينيين كألبانيا وإندونيسيا، في وقت تُفيد فيه التقديرات بأن 10 في المئة من سكان غزة خرجوا منه طوعاً بعد أحداث 7 أكتوبر 2023 في هجرة دائمة إلى دول غربية حيث "رَغَد العيش"، هرباً مِما قاسوه في القطاع، حيث تأرجحوا بين "مطرقة" إجرام الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرّفة "اللاهثة" خلف الحروب، و"سندان" حماسة "حماس" غير المحسوبة ومغامراتها، بل تهوّرها في فجر ذاك السبت من 7 أكتوبر.
وإذا كان طرح ترامب يتماهى مع اليمين المتطرّف في الدولة العبرية، فإن اقتراحه يرمي أيضاً إلى تعويض "خيبة" رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الذي أُرغم على إبرام صفقة مع حركة شنّ حرباً ضروساً للقضاء عليها، وانتهى الأمر بعراضات عسكرية - إعلامية متقنة التنظيم لـ "حماس"، رافقت تسليم الرهائن الإسرائيليين في قلب القطاع فوق ركام الحرب المتناثرة وعلى أطلال منزل السنوار في خان يونس، في تحدّ صارخ لـ "الجبروت الإسرائيلي".
لا شك في أن مقترح الرئيس الأميركي أدخل الغبطة إلى قلوب سكان غلاف غزة الإسرائيليين الذين باغتتهم "حماس" وأخواتها في 7 أكتوبر، ولطالما وصف هؤلاء، الأبراج السكنية الشاهقة في القطاع بـ "التلوث البصري"، لأنها كانت تحجب عنهم رؤية البحر، قبل تسويتها بالأرض إبان الحرب الأخيرة. بيد أن مشهد زحف الغزيين فور فتح محور "نتساريم"، من جنوب القطاع المنكوب إلى شماله الأكثر نكبة وحيث تنتفي مقوّمات العيش، هو خير ردّ على طرح ترامب وتأكيد على رفض تهجيرهم من أرضهم، هم من خبروا مآسي الهجرة منذ النكبة.
ويبقى أن مصر والأردن ورغم تنعّمهما بالمساعدات المادية التي يغدقها "العمّ سام" عليهما منذ سنوات، إلّا أن تهجير الفلسطينيين إلى أراضيهما سيبقى خطاً أحمر، لأن زوال هذا الخط يعني حكماً تهديد أمنهما القومي، بحكم أن "حماس" تتحدّر من "سلاسة" الأخوان المسلمين، وهي الخطر الأشدّ فتكاً على السلطات الحاكمة في القاهرة وعَمّان.
بينما ردّد بعض الإعلام العبري أن طرح ترامب هو مجرّد أفكار ولم يُبحث بشكل جدي، نقلت "يديعوت أحرونوت" عن مصدر وصفته بالرفيع في هيئة الأركان العسكرية تأكيده تأييد الجيش للخطة، مشيراً إلى أنها تخدم المصالح الإسرائيلية. ووفق المصدر عينه، فإن الذراع العسكرية لـ "حماس" لم تُهزم بعد من الناحية العسكرية والإدارية، وهو ما يترك الجيش الإسرائيلي في القطاع في وضع معقد. وأضاف المصدر أن تل أبيب كوّنت انطباعاً يرجّح أن تصريحات ترامب لم تكن ارتجالية بل تعكس نيات أميركية جدية.
بدوره، الخبير الإسرائيلي في الشؤون الفلسطينية ميخائيل ميلشتاين كتب في الصحيفة عينها أنه "في نظر بعض دول العالم، فإن حديث ترامب عن نقل الغزيين إلى الأردن ومصر يمكن أن يبدو نوعاً من المباهاة، كالرغبة في شراء غرينلاند من الدنمارك، أو دمج كندا بالولايات المتحدة. لكن في الشرق الأوسط، يُستقبل هذا الكلام بقلق وجدية".
وأضاف ميلشتاين أنه ككثير من مقترحات ترامب، فإن الفكرة توصف بـ "الصفقة المنطقية"، وتمتاز باعتبارات مادية، غير أنها تتجاهل تماماً الأبعاد الإيديولوجية والثقافية والذاكرة التاريخية والتوترات بين إسرائيل والعالم العربي والفلسطينيين، وهي المكوّنات التي بدت أنها أقوى من أي اعتبار في الشرق الأوسط بعد 7 أكتوبر.
من جانبها، اعتبرت "هآرتس" في إحدى افتتاحياتها أن ترامب يواصل البحث عن مكان ينقل إليه سكان غزة، من دون أن يأخذ في حسبانه أن المقصود هو ما يقارب مليوني رجل وامرأة وطفل، والقطاع هو منزلهم ووطنهم. وأضافت أنه لا يمكن حلّ النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني بحلول سحرية، وبالتأكيد ليس عبر حلول تنطوي على الترحيل والتطهير العرقي. وختمت أنه من الأفضل عدم طرح أفكار إمكاناتها الوحيدة تخريب اتفاقات السلام بين إسرائيل ومصر والأردن.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك