هل يعمد مسؤولو حزب الله الى التقاط أنفاسهم في هذه المرحلة الانتقالية، وينصرفوا فوراً الى تقييم نتائج حرب «إسناد غزة» وما نتج عنها من خسائر فادحة للحزب وللبنان، ولمجمل قوى الممانعة، على الصعيد الاقليمي، وذلك من جهة استخلاص الدروس والعبر اللازمة، وتمهيداً للتحلِّي بالواقعية السياسية واعتماد رؤية جديدة لدور الحزب في المرحلة المقبلة؟
نحن نؤمن بأن تقاعس الحزب عن القيام بمثل هكذا مراجعة للخيارات السابقة، ولنتائج الحرب المدمِّرة يعني بالضرورة تعمُّد تجاهل كل المتغيرات الجذرية على المستويات الداخلية والعربية والدولية، والتي وضعت جميع دول المنطقة امام واقع سياسي واستراتيجي جديد، والذي بات يُنبئ بإمكانيات حدوث تطورات جيوستراتيجية هامة، تطال عدداً من دول الاقليم، وعلى رأسها الجمهورية الاسلامية في ايران.
المطلوب وبإلحاح أن تسرِّع الامانة العامة لحزب الله البدء باجراء هذه المراجعة العامة بواقعية، وأن تدرك جيداً بأنه لا يمكنها الاستمرار في حالة الانكار والمكابرة تمهيداً للاستمرار في نفس النهج والخيارات في ظل المتغيرات الجذرية التي طرأت على البيئة الاستراتيجية الاقليمية والدولية، بالاضافة الى توافر الظروف الداخلية لاستعادة الدولة اللبنانية لصلاحياتها ومسؤولياتها في اعادة بناء مؤسسات الدولة، وفرض سيادتها على كل اجزاء الوطن، وامساكها من جديد بقرار السلم والحرب.
لكن يبدو من كل الخطب والتصريحات التي ادلى بها الشيخ نعيم قاسم ومسؤولون آخرون في قيادات الحزب السياسية، بأنهم مستمرون ومتمسكون بحالة الانكار التي اعتادوها لسنوات طويلة، وهذا ما يدفعهم الى تجاهل حجم الكارثة التي بهم وببيئتهم في الجنوب والبقاع وضاحية بيروت، بالاضافة الى انقطاع خطوط التمويل والتسليح مع ايران عبر العراق وسوريا، بعد سقوط نظام الاسد، وسعي الحكومة العراقية لضبط حدودها مع كلٍّ من ايران وسوريا، بالاضافة اي تشديد اسرائيل لاجراءاتها وعملياتها ضد مواقع الحزب وقياداته، ومراقبة جميع طرق تمويله وتموينه.
بعد انتخاب الرئيس جوزاف عون كرئيس للجمهورية، وبعد سماع الجميع مضمون خطاب القسم وتشديده على تطبيق اتفاق الطائف واسترجاع الدولة لسيادتها وحصر حق حمل السلاح بالدولة وحدها واستعادة قرار السلم والحرب، وبعد صدور البيان الوزاري لحكومة نواف سلام، والذي كرَّر حصرية السلاح بالجيش والقوى الامنية، والشروع بعملية اصلاحية واسعة تستعيد فيها الدولة لكامل مسؤولياتها الادارية والامنية والدفاعية والقضائية، صرح الشيخ نعيم قاسم بأن الحزب سيعترف باتفاق الطائف وخاضع للدستور المنبثق عن هذا الاتفاق. ورأى المراقبون من خلال هذا التصريح بأن الحزب جاهز لإجراء مراجعة عامة عن الحرب والاستفادة من نتائجها وعبرها للدخول في الجمهورية الجديدة كحزب سياسي، وبالتالي التخلي عن تنظيمه العسكري، وتسهيل مهمة حصرية السلاح بيد الجيش والقوى الامنية الاخرى.
لكن بدا واضحاً في آخر مقابلة أجراها الشيخ نعيم قاسم الامين العام مع تلفزيون المنار قبل ايام معدودة بأن هناك قراراً للتمسك بسلاح الحزب وبتنظيمه العسكري من اجل الاستمرار في دوره المقاوم والممانع، وبالتالي اعادة بناء جهوزيته العسكرية في مواجهة اسرائيل كقوة دفاعية مستقلة عن الجيش وغير خاضعة في قراراتها للدولة اللبنانية.
يقول الشيخ نعيم قاسم في المقابلة «اريد ان اوضح امراً للجمهور وللدولة، نحن نقول ايضاً بحصرية السلاح لقوى الامن الداخلي والجيش لضبط الامن في لبنان وللدفاع، ونحن لسنا ضد ان يكونوا مسؤولين، ونرفض منطق الميليشيات، ونرفض ان يشارك احد الدولة في حماية امنها، لكن نحن لا علاقة لنا بهذا الموضوع، نحن مقاومة ضد العدو الاسرائيلي. نحن ندافع عن ارضنا عندما يهاجمنا العدو»، ويستطرد الشيخ قاسم «اسرائيل خطر عندما تعتدي، وخطر بكيانها بكل المعايير، ومن حق المقاومة ان تستمر ولا علاقة لها بادارة الدولة او بسلاح الدولة، اذا كان هناك من يعتقد ان كلام رئيس الجمهورية موجه ضدنا، فنحن لا نعتبره موجهاً ضدنا».
يحاول الامين العام بكلامه هذا انكار مسؤوليته عن ادخال الحزب لبنان في حربين ضد اسرائيل، مع كل ما خلفتهما هاتين الحربين من دمار وخسائر بمليارات الدولارات، دون استئذان الدولة او مراعاة مصالح الاكثرية الساحقة من اللبنانيين، كما انطلق الحزب بقرار ذاتي، ودون استشارة الدولة، للمشاركة في سنوات طويلة من الحرب داخل سوريا، مع كل ما ترتب عن ذلك من فتح الحدود اللبنانية - السورية امام كل انواع التهريب والفلتان بما في ذلك تهريب المخدرات، الامر الذي ادى الى تأزيم علاقات لبنان مع الدول الخليجية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية.
اللافت ان الامين العام حاول في المقاومة التأكيد بأن اتفاق وقف النار مع اسرائيل يشمل وقف نشاطات الحزب جنوبي الليطاني فقط ولا يشمل شماله او اي بقعة اخرى من لبنان.
ويتعارض كلام قاسم هنا مع نص الاتفاق وخصوصاً النسخة الانكليزية منه، حيث يبدو واضحاً للجميع بأن الاتفاق ينص على البدء من جنوبي الليطاني ويتوسع ليشمل نزع السلاح في كل لبنان. وتتحمل الحكومة اللبنانية والعهد مسؤولية تطبيق الاتفاق بكامل مندرجاته، وأن الخطوة الاولى في هذا السبيل تستدعي الرد على تصريحات مسؤولي الحزب بدءاً من الشيخ نعيم قاسم، وذلك قبل ان تذهب ابواق الحزب الى تخوين المسؤولين، الامر الذي ظهر من تصريح قاسم باتهامه وزير الخارجية باعطاء اسرائيل المبررات لاعتداءاتها المختلفة على الحزب وعلى لبنان.
ان على الحكومة عدم اضاعة هذه الفرصة المؤاتية لخلاص لبنان، وخصوصاً بعد كلام الرئيس سلام عن اضاعة لبنان كل الفرص السابقة، من هنا تبرز اهمية ان تأخذ الحكومة والعهد موقفاً واضحاً من قضية السلاح وايجاد حل حاسم من موضوع دعوات قيادات الحزب للحفاظ على المقاومة كجسم مسلح خارج اطار سلطة الدولة. ولا بد ان تشرح الدولة لقيادة الحزب بأنه لن يكون هناك اعمار في غياب التزام الدولة باستعادة سيادتها واصلاح مؤسساتها بما في ذلك نزع سلاح الحزب، تنفيذاً كاملاً للقرارات الدولية ولاتفاق الطائف. في غياب ذلك لن يحصل لبنان على مساعدات ومساهمات واستثمارات تؤمن الاموال اللازمة لاعادة الاعمار.
اذا اصرت قيادات الحزب على افشال هذه الفرصة فعليها ان تدرك بأنها ستؤدي الى عزل لبنان واسقاط اتفاق الطائف ودفع لبنان الى المجهول.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك