لا يمكن الكلام عن تسوية تاريخية في لبنان قبل أن يعلن "حزب الله" على طريقة السيد عبدالله أوجلان إلقاء السلاح وحلّ النسخة العسكرية والأمنية لـ "الحزب"، والانتقال إلى العمل السياسي. وما لم يعلن ذلك، فإن المواجهة ستبقى مستمرة، ولو مع النسخة السياسية المعسكرة لـ "الحزب" بعدما قضت الحرب العسكرية والاتفاق الذي نتج عنها وسقوط الأسد على قدرات النسخة العسكرية وتقلّص هامش دورها كثيراً.
إذا كان إعلان أوجلان هو تعبير عن جرأة في مكان، فإنه ينم عن واقعية سياسية في مكان آخر، دفعته إلى الاعتراف بالوقائع التي لن تسمح لمشروعه المسلّح بتحقيق أهدافه، وهذا ما دفعه إلى توجيه رسالة دعا فيه حزبه، "حزب العمال الكردستاني"، إلى "حلّ نفسه وإلقاء سلاحه".
وعلى "حزب الله" أن يحذو حذو أوجلان بحلّ نفسه وإلقاء سلاحه، لأن الظروف الإقليمية المسهّلة لمشروعه انتهت، فلا إسرائيل ستسمح له من الآن فصاعداً برمي الحجارة على بلداتها، ولا الولايات المتحدة ستتساهل مع دور إيران الإقليمي التخريبي. وأقفلت أمام "الحزب" طريق تسليحه البرية السورية، كما تم حظر طريقه التمويلية الجوية الإيرانية. أما بنيته العسكرية، فإما دمِّرت وإما وقّع على تفكيكها. وبالتالي، ماذا يفيد هذا الإصرار العبثي على سلاح لم يعد بإمكانه استخدامه؟
من الواضح أن "حزب الله" ليس في وارد الإعلان عن إلقاء السلاح على غرار أوجلان راهناً والميليشيات اللبنانية سابقاً عندما تخلّت عن السلاح. وهذا يعني أنه ما زال يراهن على الظروف الإقليمية التي تسمح بإحياء مشروعه، وهذا ما يفسِّر إصراره على أدبياته نفسها، وكأنه لم يُهزم ولم يستسلم ولم ينتهِ مشروعه، ولا بل يتحدّث بكل ثقة أنه منح الحكومة فرصة للدبلوماسية قبل أن يعود إلى ما يسمى المقاومة. وكأن نتائج هذا الخيار باهرة، فيما تتراوح نتائجه بين الكوارث التي لا تحصى ولا تعدّ، وبين الفضائح التي كشفت ادعاءاته الكاذبة على حقيقتها حول قوته وقدراته.
لا يمكن الحديث عن تسوية تاريخية بين اللبنانيين قبل أن يُعلن "حزب الله" بالفم الملآن تخليه عن السلاح والالتحاق بالمشروع اللبناني، وهنا لا بدّ من التمييز بين أمرين أساسيين:
الأمر الأول، التخلي القسري عن استخدام السلاح بفعل الهزيمة والحصار الجغرافي والظروف الخارجية والإطباق الداخلي، ولكن هذا التخلي العملي، لم يترافق مع التخلي الخطابي الذي واصل الحديث عن دوره المسلّح، وكأنه ما زال في وضعيته السابقة نفسها. وهذا يعني أنه في اللحظة التي تتبدّل ظروف التخلي القسري، يعود "الحزب" إلى مشروعه المسلّح التخريبي.
ولا يكفي إرسال إشارات من هنا ومن هناك حول الالتزام باتفاق الطائف ونهائية الكيان اللبناني ومنح الدبلوماسية فرصة، وكأن هو من يقرِّر وأمامه خيارات أخرى. لأن هذه الإشارات لا تُؤخذ على محمل الجدّ، طالما أنه في الجملة التي تليها يتحدّث عن قدراته على الزلزلة والمسح والقبع والإزالة والشطب، وكأن الناس كانت في رحلة فضائية عندما أسقط الميدان شعاراته الكاذبة.
الأمر الثاني، التخلي الطوعي عن السلاح ربطاً بالمعطيات الخارجية والداخلية التي تفرض عليه التأقلم معها، تلافياً لانتحار في غير محله، وفي ظل عجزه عن تغيير هذه المعطيات، وهذا ما يميِّز الفريق العقلاني الذي يبدّي مصلحة شعبه على الفريق الذي يبدّي أيديولوجيته على حساب شعبه.
ومع تخلي "حزب الله" الطوعي عن السلاح وخروجه من الخطاب الملتبس إلى الوضوح السياسي، بإعلانه إلقاء السلاح وحلّ حزبه المسلّح والانتقال إلى العمل السياسي الصرف، وبالتالي مع سلوكه هذا المسار والتوجُّه، يصبح بالإمكان الحديث عن تسوية تاريخية، ولكن قبل ذلك، من الخطيئة إيهام الناس بتسويات ستسقط عند أول مفترق يسمح لفريق السلاح بأن يستعيد دوره.
إن التسوية التاريخية بين اللبنانيين ضرورية من أجل طيّ الأسباب التي أدت إلى تفجير الوضع اللبناني، وفتح صفحة للمستقبل محصّنة قدر الإمكان بما يحول دون التفجير ويرسِّخ الاستقرار الدائم. لكن هذه التسوية مستحيلة من دون وصول جميع القوى والمكونات إلى هذه القناعة، أي القناعة بالتخلي عن السلاح لمصلحة سلاح الدولة، والتخلي عن المشاريع الإقليمية لمصلحة المشروع اللبناني.
ولأن مصارحة الناس ضرورية، وطالما أن "حزب الله" لم يُعلن إلقاء السلاح، ولم يُعلن حل نسخته العسكرية، ولم يُعلن التحاقه بلبنان أولاً والدولة أولاً، فلا تسوية تاريخيّة ولا من يحزنون.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك