يكثر الحديث عن الدولة العميقة في لبنان، والمقصود طبعاً البنية التحتية القابضة على مواقع الدولة في مفاصلها العسكرية والأمنية والقضائية والمالية والإدارية وغيرها، ولكن لا يمكن التعامل معها بكونها وحدة متراصة كونها تشكل تعبيراً عن أجسام مختلفة تجسِّد الواقع التعدّدي للبلد، وبالتالي الدولة العميقة هي كناية عن دول عميقة مسيحية وسنية وشيعية ودرزية.
ومع انطلاقة جمهورية العام 1943 كان الانطباع المسيحي أن الإمساك بمفاصل الدولة العميقة يشكل ضمانة لحياد الجمهورية عن مشاريع الوحدة والضمّ والإلحاق وتغيير الهوية والدور، ولكنّ هذه الدولة فشلت في التصدّي للرياح الإقليمية التي تمّت ملاقاتها من البيئات المحلية، فانهارت الجمهورية وسقط معها وهم الضمانة المتمثِلة في الدولة العميقة التي تشكّل في أفضل الأحوال تحصيناً لواقع معيّن في ظل أزمات عادية لا عواصف سياسية.
وعندما وضع حافظ الأسد يده على لبنان، لم يكتف بالسيطرة على الرئاسات والحكومات ومجالس النواب، إنما أشرف على إعادة تركيب الدولة بمفاصلها كلّها والتي أصبحت تحت سيطرته وغير خاضعة للمرجعيات الرئاسية، بمعنى أن إمساكه بالمواقع كان مباشراً ولا يمرّ عن طريق هذه المرجعية أو تلك.
وبعد خروج جيش الأسد من لبنان، لم ينجح "حزب اللّه" في وراثة مفاتيح الدولة العميقة كلّها بسبب تكوينه المذهبي وكجسم من الأجسام السياسية-الطائفية الأخرى، خلافاً لوضع دولة إقليمية تمسك بالواقع اللبناني برمّته. لكنّه على الرغم من ذلك، احتفظ بالمفاصل الآتية بالاتكاء على سلاحه:
أوّلاً، السيطرة على القرار الاستراتيجي بشقّيه: حدود لبنان البرية والجوية والبحرية، وشق منع الدولة من بسط سيادتها.
ثانياً، السيطرة على مواقع أساسية داخل قطاعات الدولة العميقة بواسطة الشخصيات الشيعية أو الحليفة من طوائف أخرى.
ثالثاً، تعطيل مواقع التأثير في الدولة عن طريق وهج السلاح والخشية من ردة فعل "الحزب" وغياب الغطاء السياسي لعمله.
يمكن تجزئة الحقبة الممتدّة منذ العام 1990 إلى اليوم إلى ثلاث مراحل: مرحلة السيطرة السورية الشاملة على الدولة العميقة وقرارها السياسي برئاساتها ومجالسها النيابية والحكومية والتي انتهت في العام 2005. ومرحلة سيطرة "حزب اللّه" على قرار الحرب ومفاصل الدولة الرئيسية من دون قدرته على الإطباق على الحياة السياسية والتي انتهت في العام 2024 ومطلع العام الحالي مع سقوط الأسد. وأخيراً، المرحلة التي بصددها البلد مع انتخاب رئيس للجمهورية وتكليف رئيس للحكومة من دون تأثير "الحزب". ويقع الرهان اليوم على تأليف حكومة تكون قادرة على الإمساك بمفاصل الدولة.
تشكل النهاية العسكرية لـ"حزب اللّه" مع قرار وقف إطلاق النار، ونهاية مشروعه الإقليمي مع سقوط الأسد، فرصة لوضع السلطة يدها على الدولة العميقة بمفاصلها كلها العسكرية والأمنية والقضائية والمالية والإدارية، فتكون المرة الأولى التي تستعيد فيها الدولة سيطرتها على مواقع القرار داخلها بعد سقوط الجمهورية في مستنقع الحرب، الأمر الذي كان يجب حصوله في العام 1990 لولا وضع اليد السورية على لبنان.
وقد أظهرت تجربتا ما قبل الحرب وما بعدها مع الاحتلال السوري، أن الإمساك بالدولة العميقة بحاجة لقرار سياسي متجانس. وأبقى غياب هذا القرار على غرار حقبة الشيعية السياسية، لبنان في الفوضى. وهذا ما يفسّر سعي "حزب اللّه" إلى استمرار هذه الفوضى عن طريق سيطرته على الحصة الشيعية الكاملة داخل الحكومة، والتي سيحاول من خلالها قطع الطريق على أي تعيينات تُفقده القدرة على إبقاء الدولة مشلولة. ويراهن على مواصلة سيطرته على الحصة الشيعية في الدولة، وعلى تعيينات لا تقلقه لدى الطوائف الأخرى التي يتقاسم معها النفوذ والسلطة.
لو كان "حزب اللّه" منسجماً مع نفسه، لكان رفض المشاركة في حكومة قاطع استشاراتها مع الرئيس المكلّف، وانتقل إلى صفوف المعارضة لمواجهتها. لكنه لا يؤمن بالحياة السياسية ولا باللعبة الديمقراطية طبعاً، وهمّه الوحيد السيطرة على الدولة لمنعها من تحمُّل مسؤولياتها السيادية والإصلاحية. ويحاول تعويض خسارته سلاحه ومشروعه بإبقاء الدولة فاشلة ولبنان ساحة فوضى.
يخشى أن يكون غياب الحزم في التأليف، القاعدة في التعيينات وفي تحويل دور الحكومة إلى دور شكلي من دون فعالية، فيما كانت الآمال أن تشكل السلطة الجديدة برأسيها والحكومة محطة لتشكيل قرار سياسي: من فوق، مشروعه الدولة وإعادة بناء الدولة العميقة. ومن تحت، تحصين لهذا المشروع. هذا لا يعني أن الفرصة انتهت وتبدّدت. ولكن هناك خشية موجودة في ظلّ التساهل مع "الثنائي الحزبي الشيعي" والاتكاء على المعطيات الخارجية التي أنهت مشروع الدويلة والرهان على الوقت لتذويبه في مشروع الدولة، إلّا أن هذا الرهان في غير محلّه كون هذا المشروع غير قابل للذوبان لأنه بتكوينه ضد وجود دولة فعلية.
المعضلة القائمة اليوم تتمثّل بالآتي: المشروع المسلّح لـ "حزب الله" انتهى، ومشروعه الإقليمي انتهى، وبالتالي لم يعد باستطاعته استجرار الحروب ولا ربط لبنان بالمحور الإيراني. لكنه قادر على إبقاء الدولة فاشلة انطلاقاً من عاملين: مركزية الدولة، وسيطرته على الحصة الشيعية التي تمنع قيام دولة فعلية. والحلّ لهذه المعضلة يكمن في فك الارتباط مع "الثنائي" بالذهاب إلى اللامركزية الموسّعة، فيفقد قدرته على تعطيل الدولة المركزية، لأن التعطيل اليوم أصبح محلياً ومن "الثنائي"، ومنعه من التعطيل يكون إما بالإبعاد، وهو مستبعد، وإما بالانتقال من الدولة المركزية التي باستطاعته تعطيلها سيادياً وإصلاحياً، إلى الدولة اللامركزية التي يفقد معها قدرته على التعطيل.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك