كتب شارل جبور في "نداء الوطن":
لا أحد كان يتصوّر أن الرأي العام الذي التفّ حول خطابيّ القسم والتكليف، انتقل من دون مقدمات ولا سابق إنذار إلى التشكيك والاستياء والغضب، عندما بدأت تتسرّب الأخبار عن إبقاء وزارة المالية في عهدة الثنائي الحزبي وسيطرته على الحصة الشيعية. وكان الاعتقاد بأن الارتياح للخطابَين، يفترض أن يقابل بتسليف رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلّف ورقة تشكيل الحكومة. لكن، تبيّن أن التسليف غير وارد لدى الناس لثلاثة أسباب أساسية:
السبب الأول، وبمفعول رجعي، يتعلّق بممارسات الفريق الممانع التي أبقت لبنان ساحة حروب واغتيالات وفوضى. وعندما رأت الناس بوادر قيامة الدولة الفعلية مع خطابيّ القسم والتكليف، أصبحت متشددة إلى أقصى الحدود ورافضة أي تساهل مع فريق يُبقي لبنان في مستنقع الحروب.
السبب الثاني، وبمفعول آني، يرتبط بحالة الإنكار التي يعيشها "حزب الله"، فلا يريد الاعتراف بأنه خسر الحرب، ولا الإقرار بأن سقوط الأسد أقفل عليه الحدود، ولا يريد تسليم سلاحه، ويواصل ممارسة دوره وكأنه في زمن ما قبل "طوفان الأقصى"، وهذا ما يعبِّر عنه صراحة أمينه العام، فيما الناس ترى في "المومنتم" الحالي الوقت المثالي للانتهاء من مشروع الدويلة بالضربة القاضية.
السبب الثالث، وبمفعول مستقبلي، هو عدم القدرة على بناء الدولة وترسيخ الاستقرار مع الفريق الممانع. وجاءت تطورات المنطقة والانتخاب والتكليف لتعطي الأمل للناس بالمستقبل، ولا يريدون تبديد هذه الفرصة التاريخية وتضييعها من أجل إعادة لبنان مساحة لعيش آمن ومستقر.
بالمختصر، إن الحساسية الزائدة للناس مردها إلى حالة اليأس من الوصول إلى حياة طبيعية في ظل دور "حزب الله" المسلّح من جهة، وحالة الأمل بالتخلُّص من دويلة "الحزب" من جهة أخرى، بعد التطورات التي قضت على مشروعه العسكري في لبنان والمنطقة.
بهذا المعنى، إن الناس ليسوا في وارد التساهل مع "حزب الله" انطلاقاً من خشيتهم بأن يؤدي هذا التساهل إلى خسارة فرصة التخلُّص من دوره المزعزع للاستقرار اللبناني، ويجدون أنفسهم عاجزين عن استيعاب وفهم الآتي:
أولاً، على رغم ترحيبهم الكبير بانتخاب الرئيس جوزاف عون وتكليف الرئيس نواف سلام، لم يجد الناس تبريراً لعدم انتخاب وتكليف من هم رأس الحربة في مواجهة الفريق الممانع. واعتبروا أن ما حصل هو تنازل مجاني، وهذا ليس انتقاصاً من عون وسلام والرهان الكبير عليهما، إنما كان من البديهي أن يتبوأ أصحاب مشروع الدولة السلطة ترجمة لنضالهم التاريخي ولو بعد تصحيح الميزان البرلماني.
ثانياً، لم يجد الناس تبريراً لهذا "الغنج" الزائد لإشراك الفريق الذي لم يكتفِ بالإساءة إلى موقعيّ رئاسة الجمهورية والحكومة في عدم الانتخاب والاستشارات، ولا تبريراً لإشراك فريق ما زال يصرّ على دوره المسلّح خلافاً لموقفيّ عون وسلام، وخلافاً للمعطيات الجيوسياسية، وخلافاً للدستور والقرارات الدولية، وخلافاً لرأي الشريحة الساحقة من اللبنانيين، وبالتالي الإشراك كان مفهوماً لو أن هذا الفريق أعلن انتهاء مشروعه الإقليمي المسلّح، أو لو تمّ تخييره بوضوح وصراحة بين مشروعه المسلّح ومشروع الدولة، فإذا اختار الأول يبقى خارج الحكومة.
ثالثاً، لم يجد الناس تبريراً لمنح الفريق الممانع مطالبه الحصصية على رغم خسارته عسكرياً في لبنان والمنطقة، وخسارته في الانتخاب والتكليف، وحاجته للحكومة من أجل إعادة الإعمار، وعجزه عن تعطيل مسار الدولة، خصوصاً في مرحلة جديدة عنوانها الدولة والدستور وتستدعي القطع مع المرحلة السابقة كلها، وبالتالي إبقاء وزارة المالية بيده نقطة سوداء مهما تمّ تبييضها وتجميلها وترسيم دورها، كما أن منحه الحصة الشيعية كلها لا يجوز، والتلطي باحتكاره الحصة النيابية ليس دقيقاً في ظل مناخ شيعي لا يقل عن 35% من الطائفة يعتبر أن حصر التمثيل الحكومي بالثنائي رسالة ضد الشيعة الذين يريدون دولة ودستور.
في المقابل، ينطلق أصحاب النظرة الواقعية في الدولة من العناصر الآتية:
أولاً، لا مصلحة بفتح مواجهة سياسية مع فريق وازن مع انطلاقة العهد، لأن هذه الانطلاقة ستتأثر وتتعثّر، إنما المصلحة تكمن في تحييد الأزمات وتزخيم الانطلاقة في مرحلة واعدة خليجياً وعربياً ودولياً، وسيتقدّم معها مشروع الدولة أشواطاً إلى الأمام. وبقدر ما يتقدّم هذا المشروع ، يتراجع المشروع الآخر تلقائياً.
ثانياً، المخاوف من قدرة الفريق الممانع على الانقلاب على الوقائع المستجدة في غير محلها. فالوضع الجديد لا يشبه بشيء مرحلة ما بعد خروج جيش الأسد، ولا مرحلة ما بعد حرب تموز، لأن المعطى الجغرافي هذه المرة قال كلمته، وهذا المعطى حاسم، فلا حياة لتنظيم يرتوي من إيران بعد إقفال الممر السوري عليه، وهذا فضلاً عن تدمير بنيته العسكرية، وتراجعه إلى داخل بيئته في ظل تقاطع الطوائف المسيحية والسنية والدرزية على مشروع الدولة ودينامية شيعية ضده، وبالتالي المسألة مسألة وقت ليهضُم وضعه الجديد لا أكثر ولا أقل.
ثالثاً، يجب استيعاب الفريق المهزوم لا كسره، لأن كسره سيستجر ردود الفعل من قبله، وعلى رغم أن ردود فعله بعد هزائمه لن تؤثِّر على المسار العام، إلا أنها تؤخِّر هذا المسار، وبالتالي من الأفضل استيعابه لأنه سيذوب مع الوقت في مشروع الدولة بعد انتهاء مشروعه الإقليمي، وخصوصاً أن المواجهة مع القيادة الإيرانية لن تتوقّف قبل كسرها أو تركيعها.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك