كتب زياد شبيب في "النهار":
لم ترسُ الدولة في هذا الشرق على شكل معين وربما لن يكون ذلك في المدى المنظور، وما لم يقم في هذه المنطقة معاهدة "ويستفاليا" عربية أو مشرقية، كالتي يدعو إليها عبد الحسين شعبان، قد لا تستقر أحوالها ولا يكون هناك مفهوم واحد للدولة هنا كما حصل في أوروبا بعد تلك المعاهدة التي رسخت مفهوم الدولة الأمة أو الدولة القومية. وفي خضم المتغيرات الهائلة المتتالية هنا لا تزال ترى طموحاً إمبراطورياً هنا وجموحاً قومياً هنالك، إضافة إلى ميل إلى إعادة أشكال الحكم الديني.
جميع هذه التوجهات تنتمي ربما إلى زمن ماض ولكنها مطروحة. ولكن على الرغم منها، توجد نماذج تقوم أيضاً على الواقعية السياسية وعلى توجيه الطموحات الوطنية نحو إقامة أشكال من الحكم تتوخى الصالح العام للشعوب. ومن هذه النماذج ما تجده في الخليج العربي، وكذلك في إقليم كردستان العراق. وفي ذلك الإقليم الضارب في العراقة والمؤسّس على تضحيات كبيرة، تجد مشروعاً وطنياً حقيقياً يقيم التوازن بين ميول الانفصال القومية وضرورات الاستمرار بالانتماء إلى الدولة العراقية الواحدة، والهدف طبعاً هو المصلحة العليا لذلك الشعب العريق.
هذا النجاح القائم في إربيل يشكل عامل تخوّف لدى الدول التي تتقاسم الشعب الكردي وفي مقدمتها تركيا التي خاطرت بهندسة وتنفيذ عملية "ردع العدوان" في سوريا ونجحت إلى الآن في استعادة أجزاء من أملاكها الإمبراطورية لكي تتجنب فقدان أجزاء أخرى، بعد أن أدركت بأن التفكك السوري لن يلبث إلا ويدخل إلى أراضيها إذا طال أمد النزوح عندها وترسّخ الحكم الذاتي الكردي على حدودها السورية. إذ لا بد أن يؤدي الحكم الذاتي المذكور إلى تعزيز آمال الكرد بتحقيق دولتهم القومية الممنوعة في أجزائها الأربعة التي يقوم الجزء الأكبر منها على الجغرافيا التركية.
هذه التغييرات الكبرى التي تحصل في المنطقة لم تشكل بنظر كثيرين من الجماعة الحاكمة في لبنان إلا مناسبة لتجديد الأدوار، وهذا عبر مبايعة والي دمشق الجديد السيد أحمد الشرع الذي بدا في أول حديث له عن لبنان، مدركاً لدور معطى له تجاه هذا البلد سواء بحكم الجغرافيا والتاريخ أو بموجب فرمان من اسطنبول.
صحيح أن الحكم القائم على البعد الديني ينتمي إلى الماضي ولكنه يعود بقوة، وإذا كانت الحاجة في الماضي إلى مثل هذه الفكرة حاجة عملية وهي إضفاء الشرعية على الحكم والحاكم، فهو اليوم يستند إلى النموذج التركي نفسه. وهذا على رغم قناعة الكثيرين بأن النظام السياسي الديني لا يستقيم مع الفهم البشري لحقيقة أن السياسة باعتبارها شأناً عاماً هي منفصلة بطبيعتها انفصالاً حقيقياً عن المعتقدات الدينية.
العصر هو عصر التفكك واعادة التركيب، فإن المطلوب من قبل النخب التي تهتم بمصير لبنان، فهم خطورة ما يحصل وتجنب الطروحات التي تتضمن اعادة النظر في شكل الدولة بما يهدد كيانها والتي راجت في السنوات الأخيرة. ذلك أن العودة إلى منطق حكم جبل لبنان اليوم تحت مسميات مختلفة، قد يتسبب بخروج الأمر عن السيطرة وبعودة طروحات كانت سائدة وتراجعت خلال مئة عام وهي الرغبة بالانفصال عن المشروع اللبناني والانضمام مجدداً إلى سوريا.
في ظل هذه التحولات الإقليمية، يصبح من الضروري للبنان أن يتبنى نظامًا سياسيًا قائمًا على المواطنة والمساواة، يضمن تمثيلًا عادلًا لجميع المواطنين، ويُعزز مناعة الدولة أمام التدخلات الخارجية والتأثيرات الإقليمية. وهذا يتطلب بروز قوى سياسية جديدة تؤمن بهذا النهج وتعمل على تحقيقه مستفيدة من الاستحقاقات الدستورية المقبلة.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك