مع دخولها الأسبوع الثاني اليوم، لم «تسترِح» الثورة غير المسبوقة في تاريخ لبنان ولا الأسئلة المتدحْرجة عن مآلاتها وآفاق الوضع المحلي الذي بدا في الأيام السبعة الأخيرة وكأنه «معزولٌ» عن الوقائع الكبرى في المنطقة و«يصنع» مسارَه بمعزل عن مصيرها.
وعلى وقع الرسالة الأقوى من الانتفاضة الشعبية بأن لا تَراجُع عن مطلب استقالة الحكومة وإجراء انتخابات نيابية مبكرة، مضتْ السلطةُ السياسية في إرباكها، وسط تعاطي أطرافها كلٌّ من منطلَقٍ مع «كرة ثلج» الاحتجاجات، التي استمرّت من وسط بيروت إلى طرابلس وجبل لبنان والجنوب والبقاع والتي لم تفرْملها الأمطار ولا ملامح «الهجوم المضاد».
وبدا واضحاً أن «التيار الوطني الحر» يتعاطى مع أي انكفاءٍ أمام «الثوار» على أنه بمثابة «حرْقٍ» مزدوجٍ لما تَبقّى من ولاية عون كما «الولاية الموعودة» بعده للوزير جبران باسيل الذي بات بمثابة «الهدف الأول» للمتظاهرين والعنوان الأبرز لهتافاتهم، في حين أن خيارات الرئيس سعد الحريري بإزاء «انفجار الشارع» محكومةٌ بسياسة مبدئية عنوانها «أم الصبي» وعدم الرغبة في إدخال البلاد التي تقف على حافة انهيار مالي في الفراغ والمجهول، كما بالواقع الذي ظهّرتْه الاحتجاجات في مناطق كانت تُعتبر «خزانات بشرية» لتياره (المستقبل) من انقلابٍ هائل في مزاج بيئته يجعل «ظهْره» الشعبي مكشوفاً بحيث أنه بات يصعب عليه التراجع (الاستقالة) كما التقدّم الى الأمام. أما «حزب الله» فيقارب المأزق من بوابة تطلّ على الاستراتيجيّ ومن خلفيةِ أن الحكومة الحالية ورئيسها، في ضوء انفلاش الاحتجاجات وما حملتْه من «علب مفاجآت» لم توفّر مناطق نفوذه، يشكلان ما يشبه «كيس رمْل» يحمي مجمل الوضعية السياسية الراهنة التي يُمْسك بها عبر تحالفه مع «التيار الحر».
وانعكس ارتباك الائتلاف الحاكم أمام «عناد» الشارع، تَخبُّطاً وعدم قدرة على توحيد الرؤية حيال كيفية تقديم «أثمان» كافية لإخماد غضبة المتظاهرين وتفادي «سقوط الهيكل على رؤوس الجميع». ولم يكن أدلّ على ذلك من ملامح تقاذُف المسؤولية حول عدم نضوج فكرتيْ تصغير الحكومة أو إجراء تعديل وزاري عليها وسط تَضارُب المعلومات إزاء «أبوّتهما» أولاً كما مَن معهما ومَن ضدّهما، رغم اقتناع دوائر سياسية أن مثل هذه الطروحات لن تكون كفيلة بتهدئة الشارع وإخراج البلاد من المأزق الكبير، وربما هي لن تبصر النور أولاً لأن «مراكب الثقة» احترقت بين السلطة والمحتجين، كما أن أي توافق على تبديلٍ في الحكومة الحالية دونه إشاراتٌ صدرت من أطراف ممثلة في الحكومة حول أن «التضحية» بالوزير باسيل وحدها كفيلة بإنقاذ العهد والوضع، وهو ما لا يمكن أن يقبل به الرئيس عون.
وفي حين دعتْ الأوساط إلى انتظار وقْع الدعم الذي أعطتْه الكنيسة في لبنان لتعديلٍ حكومي عدَلت معه عن المطالبة برحيل الحكومة من ضمن نداء رحّب به عون وجاء بعد اتصالات بين بكركي ورئيس الجمهورية، يسود الترقب الخطوة التالية للسلطة سياسياً كما ميدانياً في ظلّ مؤشراتٍ إلى انطلاق مرحلة محاولة «تطويع» الانتفاضة وهو ما عبّرت عنه الوقائع الآتية:
* الاتصالات التي أجراها الرئيس عون برؤساء مجالس إدارة محطات تلفزيون لبنانية، وراوحت المعلومات حولها بين أنها حضّت على التعاون لتفادي جرّ البلاد إلى مرحلة من اللا استقرار ودعم تنفيذ القرارات الإصلاحية الأخيرة وبين أنها تمنّت الحدّ من التغطية الواسعة للاحتجاجات.
* بث سيناريوات «تخويفية» حول تداعيات استمرار الاحتجاجات في الشارع في ظل مضي المصارف بالتوقف عن العمل منذ يوم الجمعة الماضي (أعلنت تمديد التوقف اليوم) والمخاطر المترتبة على رواتب الموظفين في القطاعين العام والخاص، علماً أن هذه المخاوف تراجعت أمس مع معلومات عن أن وزارة المال حوّلت الرواتب إلى مصرف لبنان وتُدرس إمكانية تقاضيها عبر الـATM.
* تلويح «التيار الوطني الحر» بـ«ثورة مضادة» دعْماً لرئيس الجمهورية، واعتُبرت التظاهرة المحدودة في منطقة «الحَدث» بمثابة «بروفة» في إطارها، وسط تعاطي أوساط سياسية مع تحريك دعوى ضدّ الرئيس السابق للحكومة نجيب ميقاتي تحت عنوان «الإثراء غير المشروع» على أنها من ضمن «انتقام سياسي» و«هجوم دفاعي» يشي بارتداداتٍ لا يُستهان بها.
* اتخاذ السلطة قرار فتْح الطرق المقطوعة عبر زجّ الجيش في مواجهة المتظاهرين في نقاط عدة ولا سيما المناطق ذات الغالبية المسيحية والتي شكّلت الهبّة الشعبية فيها رسالةً مدوّية برسْم الرئيس عون وتياره، وسط محاذير كبرى ينطوي عليها أي إصرارٍ على دفْع المؤسسة العسكرية للصِدام مع المتظاهرين ولا سيما في ظلّ العين المفتوحة للمجتمع الدولي الذي عبّر عن دعمه لبقاء الحكومة ولكنه رفض في الوقت نفسه أي مساس بالمحتجين وحقّهم بالتعبير عن تطلعاتهم.
ومنذ أولى ساعات صباح أمس نزلت وحدات من الجيش الى طرق رئيسية لمعاودة فتْحها، لتصطدم بدايةً مع «جدار المحتجين» الذين رفضوا إخلاء الطرق التي افترشوها ولا سيما في جل الديب (حيث لفَتَ ما يشبه «الإنزال» الذي قام به النائب سامي الجميّل بين المحتجّين من خلف شعار «كلن يعني كلن» وذلك دعْماً لهم) والذوق وغزير وجبيل، وسط مشاهد أثارت سخطاً قبل أن تستعيد الأمور هدوءها مع تراجُع الجيش وبقاء المحتجين في «مواقعهم».
وحرص الجيش على توجيه رسالة الى المواطنين بأنه يقف إلى جانبهم في مطالبهم الحياتية المحقة «وهو ملتزم حماية حرية التعبير والتظاهر السلمي بعيداً عن إقفال الطرق والتضييق على المواطنين واستغلالهم للقيام بأعمال شغب».
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك