يترافق تخبط وارتباك الإجراءات التي تحاول الحكومة بها السيطرة على التدهور الاقتصادي المتمادي، مع موجة جديدة من استدعاءات الناشطين السياسيين إلى التحقيق لدى الجهات الأمنية ورفع الدعاوى على أصحاب المدونات والمعلقين على وسائل التواصل الاجتماعي وصدور أحكام زجرية بحقهم إضافة إلى التلويح بمزيد من الخطوات القمعية بحقهم.
بكلمات ثانية، يخسر لبنان في وقت واحد ميزتين من آخر ميزاته عن دول الجوار: الحرية الاقتصادية، وحرية التعبير النسبية عن الرأي، بسبب انعدام رؤية النظام الحاكم لكيفية إدارة البلاد وإخراجها من أزماتها الهيكلية من جهة؛ وبسبب محاولة دفع لبنان إلى تحمل وطأة العقوبات الدولية المفروضة على نظام بشار الأسد والمساهمة في مد أنابيب الهواء إلى الحكم المختنق في سوريا؛ من جهة أخرى.
وإذا كانت هجمة التحالف الحاكم على الحريات العامة هي أول ما يُرى من جبل جليد الأزمة الحالية نظراً إلى المقاومة السريعة التي يبديها من تبقى من ناشطين وحقوقيين مصرّين على الدفاع عن أنفسهم وعمّا يعتقد كثر من اللبنانيين أنه من أسس الكيان السياسي اللبناني، أي حرية القول والنشر والتظاهر والاعتراض وتشكيل الجمعيات، وهي كلها أمور يكفلها الدستور، فإن الجزء الغاطس من جبل الجليد الذي يختفي تحت المياه الداكنة يشهد محاولات حثيثة لتكريس الغلبة التي حققها المحور الإيراني في لبنان والتي أضحت واقعاً سياسياً منذ "التسوية" التي أنهت إلى غير رجعة ما كان يُعرف بـ"التيار السيادي" وجاء بموجبها ميشال عون رئيساً للجمهورية اللبنانية.
ويتعين القول إن اضمحلال أوهام إعادة بناء سوريا التي راودت المشاركةُ في جني الأرباح منها بعض السياسيين اللبنانيين، قد دفع بحلفاء إيران وسوريا إلى البحث عن مخارج من الأزمة الاقتصادية الطاحنة عن طريق استغلال القنوات الخلفية اللبنانية. الأرقام المتداولة لتهريب المشتقات النفطية من لبنان عبر المعابر الشرعية وغير الشرعية، والتي تسيطر عليها جميعاً قوى الأمر الواقع، تكاد تصل إلى ضعف الاستهلاك اللبناني المعتاد، من دون أن يظهر من يفسر أو يفند أو يدحض هذه الظاهرة. وما هذا إلا جانب واحد من الضغط الذي يتعرض له الاقتصاد اللبناني الموضوع تحت المراقبة اللصيقة للأجهزة المالية الأميركية التي لا تتوقف عن توجيه التحذيرات من مغبة خرق العقوبات الدولية على النظام السوري. وهي تحذيرات تقابل بتذاكي وتشاطر الوزراء اللبنانيين الذين يظنون أن بمقدورهم الإفلات بأفعالهم المفيدة لهم على المستويين السياسي والشخصي، من دون عواقب.
وتتكرر أمام هذا الواقع المأساة اللبنانية المزمنة المتمثلة في انقسام لا شفاء منه للرأي العام المقيد بانقساماته الطائفية على نحو يحول دون اتخاذ الامتعاض أو الاستياء الاقتصادي والاجتماعي شكل الاعتراض السياسي. ولا تضاهي سرعة عودة اللبنانيين إلى معازلهم الطائفية وقوقعاتهم الآمنة أي سرعة؛ ما إن يشعروا بأن المطالبة بحرية التعبير، على سبيل المثال، ستقترب من مساءلة زعيمهم الطائفي الذي يعرفون مسبقاً فساده وسطحية آرائه ومشاريعه.
وبينما يتسارع استدعاء الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي إلى المقرات الأمنية ورفع مزيد من الدعاوى ضدهم وتهديدهم بإسكات أصواتهم بكل الطرق المتاحة، وبعد موت الصحافة اللبنانية التي كانت تشكل متنفساً للتعبير عن الرأي، يعجز المعترضون والرافضون للواقع الحالي عن تجميع أنفسهم وعن صوغ آليات مقاومة لوقف القضم البطيء لكن المستمر لمساحات الحريات المتناقصة.
ولعل لبنان لم يشهد منذ عقود طويلة وحدة بين الأطراف الرئيسية في رأس الحكم مثل تلك التي يعيشها الآن. لكن خلافاً لنماذج سابقة، قد يكون أبرزها عهد الرئيس فؤاد شهاب الذي طرح مشروعاً إصلاحياً تحتل الدولة ومؤسساتها مكان المركز فيه في ستينات القرن الماضي، يشكل تفكيك الدولة وتقاسمها كغنائم وأسلاب جوهر المشروع السياسي للمجموعة القابضة على أزِمّة السلطة في لبنان اليوم. وتسقط الحريات بكل أوجهها ضحية التوافق الطائفي العريض على تدمير ما قد يشكل في المستقبل أسس عيش اللبنانيين بعضهم مع بعض.
عليه؛ تبدو انتظارات الحاكمين لحزمات من قروض أو مساعدات تأتي تنفيذاً لمؤتمر «سيدر» الذي لن ترى مقرراته النور، أو لِهِبة من هنا ووديعة مالية من هناك، مجرد مهدئات لمرض عضال هم أول وأخطر عوارضه.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك