حين سمعت خبر موت ملحم بركات، خجلتُ من نفسي. ندمْتُ. بكيت كثيراً. سخر البعض منّي، من سلوكي، من ردّ فعلي الذي اعتبروه طفوليّاً. في 28 تشرين الأوّل من العام 2016، صادف رحيله يوم جمعة. صبغتُ، وقتها، إطلالتي كاملةً باللون الأسود حداداً على ملحم وتوجّهت إلى عملي...
سألني أكثر من زميل وزميلة عن سبب هذا السواد كلّه ظنّاً منهم أنني خسرت مقرّباً أو مقرّبة، فقال لي أحد الزملاء: "خير؟ ميّتلك حدا؟!"، لأجيبه: "إيه... ملحم بركات!"، فصُدِم ممّا قلته وامتزجت صدمته بنظرة ساخرة كادت تتحول، في ثانية واحدة، إلى ضحكة متهكّمة أكثر وأكثر قبل أن يضبطها في داخله أمام حدادي.
يوم وداع ملحم إلى مثواه الأخير، في 30 تشرين الثاني، خالجني شعور غريب جداً. حزنٌ كبير. شمَمْتُ الجفاء حتّى في الهواء. ربّما كانت أكثر مرّة، إلى الآن، أشعر أنّ للرحيل رائحة نتنة، وسكون ذا قبح. كان يوم الوداع إلى المثوى الأخير يوماً مشمساً جداً وحارّاً، غير أنني شعرت ببرد غريب. ربّما أنّ نار إبداع فنّ ملحم وأفكاره وأحاديثه المشوّقة في كلّ مكان وزمان التي لم تخلُ يوماً من تلك الحرارة الإيجابية، تركت كل هذا الأثر بعد الرحيل. بردَتِ الكلماتُ وجفّت.
ندمْتُ يوم رحيل ملحم. ندمتُ لأنني لم ألتقيه، رغم أنّ أحد أفراد عائلته الذي تربطني به معرفة منذ سنوات، عبّدَ لي الطريق أمام هذا اللقاء، الذي كان أشبه بحلم، أكثر من مرّة! وبالرغم من كل هذه التسهيلات التي حظيتُ بها، لم ألتقِ ملحم. أعترفُ اليوم، بأنني لم أشأ أن أقابله بملئ إرادتي!
شعرت بالخجل من نفسي ولا أزال. ليس فقط لأنّني لم أستطع أن أجري خلال ذاك اللقاء الإفتراضي، حواراً صحافياً مع فنان مبدع من لبنان سيذكره التاريخ يوماً ما. وليس أبداً لأنني لم أفلح في تحقيق عدد قراءات (Views) قياسيّ بعنوان "ناريّ" أستخرجه من تصريحات ملحم "النارية" كشخصيته في مقابلتي معه.
ندمتُ لأنني لم أستطع أن أصافح ملحم بركات الإنسان ولا أن أجالسه. هذا الرجل البسيط بأسلوب عيشه والدهي بفكره والمجنون بعفويته والصائب في قراراته الفنية وتصريحاته. هو من القلائل الذين كانوا "يفشّولي خلقي لمّا يحكي". ملحم الجريء في كل شيء: أفكاره، أسلوب كلامه، حتى الجريء في ألحانه ونغماته و"مقاماته". ملحم الجميل رغم كل عيوبه المعلَنة وغير المعلنة.
نادمةٌ أنا اليوم، لأنني لم ألتقِ ملحم شخصياً ولم أستمتع بذكائه وحقيقته وخفّة ظلّه التي تُجمِع عليها غالبية ساحقة، وصراحته وصدقه في الكلام والتعبير.
خشيْتُ لقاءه. خفتُ من ألا أستوعبه، من ألا أدرك وعيه الفني ومدى رؤيته الواسعة والبعيدة للأمور، لِما يسبّبه الجلوس أمام "رقم صعب" مثله من توتّر وقلق.
بملئ إرادتي، لم أذهب. خشيت أن أكون أقلّ من مقامه وقيمته. بغضّ النظر عن أن معظم مَن عرفه يقرّ بأنّه قريب جداً من الناس وكثير المحبّة ويفيض بالعفوية. خفتُ أن يعرف أنني أحبّ الغناء وأنني أتمنّى أن يهديني لحناً من تأليفه (وقلائل هم الذين يعلمون أنّ ملحم يهدي ألحانه للفنانين من دون أن يتقاضى المال)، أو حتّى جملة موسيقية واحدة، فيطلب سماعي في مقطع قصير! كنتُ لأرتجف أمام أذُنه الخطِرة.
واليوم، في الذكرى السنوية الأولى لرحيل ملحم بركات، لا بدّ من أن أعترف للمرة الأولى خارج سرّي، أنّ الحسرة تقهرني. وأنني ارتكبت حماقة كبيرة حين خشيت لقاء ملحم...! هذا المبدع "المجنون" الذي رحل "هَيْك عَ غَفْلة وما عطا خبر"...
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك