كتب البروفسور مارون خاطر باحث في الشؤون الماليَّة والاقتصاديَّة
خَلَطَت حَرب غزَّة المُستمرَّة أوراق الشرق الأوسط المُلتهب وألقت بتداعياتها على لبنان الغارِق في أزماته اللامتناهية. خارجياً، ازداد الاهتمام بلبنان تراجعاً وتُرِكَ البلد يواجه قَدَرَهُ وحيداً. أما في الداخل، فازداد التخبط تخبطاً والعجز عجزاً والغَرَقُ فصولاً. تَهاوت المبادرات وانكفأ افرقاء الداخل، باستثناء بعض أبناء الليل "الإسخريوطيين"، وتحوَّل البلد إلى وَضعية الاستعداد لحربٍ لا تملك حكومتُهُ قرارها كما جاء على لسان رئيسها. ومع اتساع رُقعَة المواجهات وامتدادِها إلى قرى الجنوب، هُرِعَت حكومة "تَسهيل الأعمال" إلى إقرار خطة طوارئ وطنيَّة تُشبه خطة التعافي الاقتصادي، وموازنة ٢٠٢٤ السيئتين اللتين أعدتهما. أما نتائجها المَرجوَّة فَمِن المتوقَّع أن تحاكي قِصَّة النَّجاح غير المسبوق الذي حققته الحكومة نفسها في التفاوض مع صندوق النَّقد والممنوع من الانتقاد تحت طائلة اتهام المُنتقدين وأنا أحدهم، من قبل "عظيم المفاوضين" القديم العَهد والبَاع، بأنهم "اقتصاديون جدد" و"مرتزقة". دَفَعَ تسارُع الأحداث لبنان واللبنانيين إلى إعادة ترتيب الأولويات.تَراجَعَ الاهتمام بالاقتصاد لِمصلحة الصّراع من أجل البقاء وتأكد المؤكد وهو أنَّ مُشكِلة لبنان ليست اقتصاديَّة ولا ماليَّة ولا نقديَّة بل سياسيَّة وبامتياز!
باستثناء مشروع موازنة ٢٠٢٤ المُعيب، خَلَت السَّاحة الاقتصاديَّة حتى من المُعالجات الواهية لنتائج الأزمة. يَخرُقُ استقرار سعر الصرف المشهد الاقتصادي المُتَرَنح في مشهديَّة هي أقرب إلى الأحاجي وضروب السّحر منها إلى المنطق والنظريات الاقتصاديَّة والنقديَّة. في هذا الإطار نسأل: كيف يَستقرُّ سعر الصَّرف في الوقت الذي يعيش لبنان حرباً على أرضه؟ ثم كيف يبقى هذا السعر دون حَراك في الوقت الذي ترتفع فيه الأسعار ويَصِل معدَّل التَضَخُّم الى مستويات غير مسبوقة؟ نسأل أخيراً، من الذي يضبُط سوق القطعاليوم بعد إعدام "صيرفة" الفاقدة للشفافية وقبل أن تبصر مِنَصَّة "بلومبرغ النقيَّة" النور؟ منطقياً، يجب أن يؤدي استبدال منصَّة غير شفافة بالفراغ إلى انتقال المضاربة مجدداً إلى السوق الموازية وإلى ارتفاع سعر الصرف، إلًّا أنَّ ذلك لَم يَحصل.فيوم قَرَّرَت السياسة إيقاف العملبـ“صيرفة" التي انشأتها، مَنَعَت المضاربة على سوق القطع وقلَّصت عمليَّات مَصرِف لُبنانوجعلت منه اللاعب الأوحد على هذه السوق بالتزامن مع ازدهار الاقتصاد النَّقدي وتَمَدُّد الدَّولرة. إنَّ سعر الصرف اليوم أقرب إلى "شبه التثبيت" منه إلى الاستقرار. يحصل كل هذا دون وجود ضابط إيقاع للسوق المتفلّتة في سابقة نقديَّة كونيَّة تؤكد أن الكلمة الفصل في لبنان هي للسياسة، بل لبعض السياسيين.
أغرَقَت السياسة مِنَصَّة"بلومبرغ" المَوعودة في غَياهب النسيان قبل أن تُبصِرَ النور وضَبَطَت بكلمة سرّ واحدة سوق القطع! تُشير المعلومات الى أن مُدربي بلومبرغ لن يأتوا إلى لبنان لأسباب أمنيَّة مما سَيَجعل إطلاق المِنَصَّة متعذراً أو مؤجلاً. رُغم كل ذلك لم يَبقَ في الشرق الأوسط كله شيء مُستقِر سوى سِعرُ صَرفِ الدولار في لبنان! يؤكد ذلك انَّ هذا الاستقرار هو من صَنيعة السياسيين! في سياق مُتَّصل، يُثبت تَسَلسُل الأحداث أنَّ المُشكلة لم تكن فقط في "صَيرفة" وأنَّ الحَلّ لَن يَكون بالتأكيد عَبر "بلومبرغ". نُكرر أنَّ الاشكالية في لبنان ليست في نَوع المِنَصَّات ولا في تَسميتَهِا بل في غياب الدولة والمؤسسات وفي تحكم بعض السياسيين بِمفاصِل اللعبة. السياسيون كانواهم فقط يُعَوّلون على دور مِنَصَّة "بلومبرغ" المُغلقة وغير القادرة على ضبط السوق في بلد حدوده فالتة وعدالته مَنقوصَة. على الرغم من ذلك، وبدل أن تُضبط الحدود ويَعود عَمَل المؤسسات، تَوَقَّف الحديث عن "بلومبرغ" وسَادَ الاستقرارعندما جمَّدَت السياسة المُضارَبَة التي تُغَطّيها. المَطلوب مُعجزة تَكُفُّ يَد مَن يَحكمون لبنان اليوم قبل الانطلاق إلى حل سياسي يَكاد يكون مستحيلاً. حتى ذلك اليوم، يَبقى استقرار سِعر الصرف مُصطنعاً وهشاً ويُخفي وراءه اقتصادًا مُنهاراً وشعبًا مُنهكاً وبلداً مفتوحاً على جَميع الاحتمالات.
أما النسيان، فهو أبرز أدوات "مهنة السياسة" في لبنان...
بالنسيان تُقوَّض العدالة ويمُرَّرُ الزَّمَن على كل الجرائم ويبقى الفاسدون دون حساب وتتغير المواقف وتُداس المبادئ.
به يعود المجرم حاكماً والفاسد مرجعاً والفاشل والجاهل مفاوضُا وقحاً.
النسيان واقع أُجبِرَ عليه اللبنانيون لكثرة ما عاشوا ويعيشون من مآسٍ وهم ومسببتها لهم السياسة...
إنه وسيلة السياسة والسياسيين للتحامُلِ على الوَقت والحقيقة في آنٍ معاً...
وسيلة المُتناسين أن الحساب يبقى بيد الله وَحده وأنه يُمهل ولا يُهمل!
مـــــــــقـــــــــالات ذات صـــــــــلـــــــــة
إقــــــرأ أيــــــضــــــاً
COOKIES DISCLAIMER
This website uses cookies to give you the best experience. By continuing to
browse this site, you give us your consent for cookies to be used.
For more information, click here.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك