كتب زياد شبيب في "النهار":
كان لافتًا ما نُقِل عن الموفد الفرنسي جان إيف لودريان بأن جلسة انتخاب الرئيس ستكون على طريقة انتخاب البابا في الفاتيكان، هذا القول يحمل معنى دستوريًا سبق شرحه في هذه الزاوية، والمقصود به أن عملية انتخاب الرئيس من الهيئة الناخبة الجماعية أي مجلس النواب إنما تتم في جلسة واحدة بدورات متتالية لا تنتهي إلّا بخروج الدخان الأبيض الذي يعني إعلان فوز أحد المرشحين بالرئاسة.
هذه القاعدة تعتمدها الهيئات الجماعية (Organes collegials) المناط بها انتخاب رئيس ومنها المجامع الكنسيّة في الشرق والغرب، وجميع من تابع يومًا انتخاب البابا يتذكر انتظار خروج الدخان الأبيض من مدخنة الكنيسة حيث يلتئم مجمع الكرادلة الذين يثابرون على إجراء دورات اقتراع مستمرة حتى فوز أحدهم بمنصب أسقف روما.
لا شك أن الكلام المنسوب إلى الموفد الفرنسي يطابق المدلول الحقيقي لنص المادة 49 من الدستور. وهو إذا صحّت مقاصده، يبعث على الأمل بوجود توجّه نحو إعادة عملية انتخاب الرئيس إلى المسار الدستوري الصحيح بعد مرور شهور الفراغ الطويل القاتلة، ولعلّ كلامه يؤشّر إلى اقتراب المساعي التي يقوم بها من النجاح، في ظل المناخات الآتية من عواصم معنيّة تصبّ في هذا الاتجاه، لكن التفاؤل في لبنان يبقى نوعًا من المخاطرة الذهنية والنفسية، أما الحذر والانتظار فهو الموقع الأكثر أمانًا.
في ظل استمرار الصراع على حاضر لبنان ومستقبله، وبانتظار انتهاء المعركة الحالية من معارك الحرب اللبنانية الباردة، يستمر الصراع على تاريخه، الحديث والمعاصر. وهذا المشهد مستمر منذ بدايات الجمهورية اللبنانية وهو مرشّح للاستمرار طالما استمرت سياسات الأحزاب والقوى الحاكمة بالنهج نفسه القائم على الصراع الطائفي على السلطة الذي يندرج حكمًا في إطار صراعات المحاور الإقليمية والدولية، ولن يتوقف طالما أن القوى المستجدة تقوم على الأسس نفسها وتستعيد الوسائل نفسها وتستعين بالخارج على الآخر في الداخل أو تنفذ سياساته في مقابل الدعم المالي أو السياسي أو العسكري. صراع المحاور أطاح برئاسة كميل شمعون في ما سمّي ثورة العام 1958، وكرّت سُبحة الحروب الصغرى والكبرى وصولًا إلى اليوم حيث يقف البلد على حافة تحوّل حربه الطائفية الباردة إلى حرب ساخنة تستمرّ عناصرها بالتكوّن مع استدراج العوامل الأمنية الخارجية إلى الداخل من معارك مخيم عين الحلوة إلى الآلاف الإضافية من المتسللين من سوريا وما يترافق مع دخولهم من حديث عن سيناريوهات استخدامهم في الداخل اللبناني.
بالأمس وكما يحصل كل عام في مناسبة الذكرى السنوية لاغتيال رئيس الجمهورية المنتخب بشير الجميّل، تكرّرت حلقة سنويّة من حلقات هذا الصراع على تاريخ البلد فظهر منفّذ الاغتيال، الصادر بحقه حكم قضائي، كاتبًا في الفكر السياسي وشارحًا أهمية انتصار المحور الذي ينتمي إليه آنذاك، وقد واكبته جيوش إلكترونية من المؤيدين والشاكرين له على "عمله البطولي". كما تكرّر مشهد الاحتفال بالذكرى ممّن فقدوا ذلك الرئيس الذي كان عندهم مشروعًا للبنان القوي الموحّد، مع ما تتضمنّه هذه الاستعادة السنوية من حاجة إلى تعزيز شرعية القيادة الحالية في أوساط أصحاب الحنين إلى زمنه وانتصاراته ومشروعه.
الصراع على التاريخ يطال الأفكار أحيانًا وليس الأشخاص، وهذا ما حصل ويحصل عندما تُستعاد طروحات كانت موضع اختلاف كبير في الماضي وكانت عليها ردود جاهزة مستعادة أيضًا منذ عقود، ومنها طرح الحياد. وفي هذا الضجيج، كان كلام البطريرك الراعي في أول الأسبوع حول الولاء للبنان، لافتًا من حيث اختيار طرحٍ غير مستعاد من الأدبيات الماضية، كلام لا يمكن إلّا تأييده والثناء عليه.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك