أصبح الموت قتلاً بالرصاص في مدينة طرابلس "اللبنانية"، خبراً عادياً تتناقله الألسن وتأرشفه كاميرات المارة، وطقساً يومياً من طقوس شهر رمضان تمارسه فئة من الناس استقوت يوماً ما بنائب من هنا، وضابط أمن من هناك، فبنت لنفسها مشروعية "شوارعية"، وأظهرت نفسها للمجتمع على أنها جزء من "قبضاياته"، ومفهوم القبضاي هنا أنه الرجل الذي يستطيع في أي وقت يريد ولأي سبب يراه، أن يطلق النار بهدف القتل وبهدف تأكيد "الزعامة"، بغض النظر عمّن قُتل ولماذا قُتل؟
وكل طرابلس تبكي المقتول ولا تتجرأ أن تسمي القاتل، لأنها تدرك أنه في حال أودع السجن ستخرجه مرجعيته الأمنية أو السياسية، وسيمعن أكثر في الغيّ والقتل، فتتحاشاه... ولنا في ذلك عشرات الأمثلة في الفيحاء وجوارها، ممن يخرجون من السجن أقوى مما دخلوه فيعيدون الكرّة مرّة بعد مرّة، وفي كل مرة يخضع القضاء لأوامر السياسيين، وتتغول طرابلس أكثر فأكثر في آتون الفوضى والعشوائيات والقتل والخراب.
ومشكلة الأمن في طرابلس ليست وليدة اليوم، مشكلة عمرها من عمر جولات الاقتتال بين جبل محسن وبين باب التبانة، وبين الجيش وبين المجموعات المسلحة التي اتخذت من الاسلام ذريعة وهوية وحجة، وتعاطف البعض تسليحاً ومشاركة مع الثورة السورية، أضف إلى ذلك وفرة السلاح بين أيدي الناس، وتوظيف الأمن يومذاك في خدمة التطورات السياسية، فبنيت مزارع أمنية لبعض الأفرع وشيّدت دكاكين لبعضها الآخر، وخضع القضاء للسياسة، وبات التشبيح السمة البارزة في مدينة العلم والعلماء، وكل شبيح يشبّح باسم مشغله سواء أكان المشغل سياسياً او أمنياً.
ومع التغييرات التي أجريت في رئاسة فرع المخابرات في الشمال في العام 2020، وتعيين العقيد نزيه بقاعي في هذا المنصب، والذي صار اليوم عميداً، بقرار من قائد الجيش آنذاك العماد جوزاف عون، لمس أهالي المدينة تغييرات ملحوظة في أداء هذا الجهاز بالتحديد، حيث انتقل من زمن إدارة التشبيح الفعلي إلى زمن تعزيز حضور الدولة في المدينة، وإعادة الروح إلى العلاقة بين أهل طرابلس والمؤسسات الأمنية، وكسب ثقتهم وإشراكهم في تثبيت الأمن في أرجاء المدينة.
إلا أن الواقع يشير إلى أن مؤسسات المدينة المدنية كالبلدية مثلاً معطوبة ومشلولة ولا تقوم شرطتها بأي دور ذات طابع أمني على الاطلاق، ونواب المدينة يتلهون في الموائد الرمضانية والتصوير وزخرفة القول، والبكائيات على حقوق طرابلس في الاعلام وظلم الدولة المركزية لها في التعيينات، مع العلم أنه يجيدون التصفيق لها في كل حال.
ولأن الحلول من الداخل صعبة ومعقدة، ولأن بعض النواب والأحزاب، شركاء في "الإثم الطرابلسي"، ولأن أحداً لا يريد أن يحوّل اعتراضه على ما يجري الى مبادرة لوقف النزيف في المدينة ووضع حد للقتل، ولأننا ندرك أن المقاربة الكاملة الشاملة تبدأ من تصحيح العلاقة بين طرابلس والدولة المركزية، ندعو فخامة الرئيس جوزاف عون الذي استبشر أهالي الشمال قاطبة بقدومه، إلى زيارة طرابلس التي أعلن أكثر من مرة عن حبه لها، وأن يصحب معه أصحاب الدولة جميعاً، بدءاً من رئيس الوزراء نواف سلام الذي يأمل الطرابلسيون انصافهم من قبله، والوزراء المعنيين، للوقوف على حقيقة الأمور التالية ومعالجتها بشكل تام ونهائي:
1- التباس العلاقة التاريخية بين طرابلس ودولتها، وقيام الأخيرة ممثلة اليوم بعون وسلام بإيلاء المدينة اهتماماً خاصاً، نظراً لتضحياتها وانطلاقاً من واقعها، على أن تنطلق قواعد التعاطي معها من مبادئ العدل والانصاف، فطرابلس عاصمة ثانية قائمة بحد ذاتها، وليست وقوداً لأحد ولا نزوة ولا فشة خلق، وناسها يستحقون أن ينعموا بما ينعم به أهالي بيروت وجبل لبنان وباقي المحافظات من الأمن والأمان والإنماء.
2- إجراء المقتضى لتفريغ شوارع المدينة من الشبيحة والزعران والسلاح والمسلحين، وذلك لا يكون إلا بالقوة، فلا أمن بالتراضي ولا لخطة أمنية يشارك فيها من يدير التشبيح في المدينة على أنواعه.
3- إصدار قوانين تسهل عمل المستثمرين في طرابلس وتمنحهم الاعفاءات التي تشجعهم على الاستثمار، بهدف الحد من البطالة والدفع نحو تحريك العجلة الاقتصادية وتأمين فرص عمل جديدة.
4- إقالة محافظ الشمال رمزي نهرا، وكل من يدورون في فلكه من موظفين وأمنيين ومدنيين، بنوا ثروات على حساب أمن طرابلس واستقرار معيشة ناسها، وإحالتهم الى القضاء.
5- تكليف الحكومة بإعداد دراسة جديدة عن الواقع الاجتماعي والاقتصادي في طرابلس، تحدد مكامن الخلل ونقاط الضعف، وتطرح خطة انمائية اجتماعية اقتصادية للخروج من دوامة الفقر، وعرضها على الدول العربية للبحث في امكان تمويلها.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك