إلى جانب نجاح المجلس النيابي في مناقشة البيان الوزاري ومنحه الثقة للحكومة الجديدة، شهدت الجلسة يومي الثلاثاء والأربعاء الفائتين، زحمة رسائل وخطابات و"نهفات" وطنية، وانشغال بعض السادة النوّاب بأعمالهم الجانبية "Part time"، وفيما تأرجحت الكلمات والمداخلات (بالنظّام أو من دونه) بين الرتابة والسخونة المهذّبة من جهة، والطوباويّة والعقلانية البنّاءة من جهّة أخرى، خرق عضو كتلة "الاعتدال الوطنيّ" النائب وليد البعريني التقليد السياسيّ، مسجّلاً أوّل صوت فدرالي واضح وصريح يصدح داخل السلطة التشريعية وفي جلسة عامة، داعياً رئيس الجمهورية جوزاف عون إلى فتح حوارٍ حول هذا الموضوع.
وبذلك، تقدّم نائب عكّار والشمال على زملائه كافة. وهذا ما لم تألفه محاضر الرئيس نبيه برّي، ولا آذان البرلمان وحيطانه الذي ظلّ لعقود طويلة، بيئة صمّاء معادية لأي طرح خارج معزوفة الوحدة والواحد والموحّد، وألحانها الانصهارية.
ومن النقاط التي يجدر التوقّف عندها، هي أن البعريني نجح في نقل النقاش الفدرالي، من حلقات التواصل الاجتماعي والإعلام والصالونات الفكرية والأكاديمية، على أهميتها ومستلزماتها المنهجية، إلى حاضنتها الطبيعية المركن إليها في الأنظمة الديمقراطية، أي الندوة البرلمانية.
إذ تُجسّد الأخيرة، مساحة الحوار الفضلى لكلّ تخاطب سياسيّ وتشريعيّ، يُحاكي الإشكاليات الوطنية الكبرى، أكانت المسائل متعلّقة في كيفية تطبيق الدستور أو تعديله أو حتى تبديل النظام. واللافت أيضاً أنّ البعريني وضع هذا المسار "تحت سقف الدستور واتفاق الطائف".
هذا يأخذنا إلى قاعدة الدكتور شارل مالك الذهبية، حيث قال يوماً، إنّ "الشرعية لا تُغيّر إلّا بالشرعية"، ما يعني أنّ انتقال شكل الدولة من مركزية إلى اتحادية (فدرالية، لامركزية سياسية، مهما تعدّدت تسمياتها)، يكمن سبيلها عبر الأطر الدستورية الشرعية القائمة، وليس من خلال إسقاط النظام (بالمفهوم اليساري القائم على الكسر والإطاحة)، إنما باعتماد النظام الحالي، للولوج إلى نظام آخر.
ويعني أيضاً، أنّ مجلس النوّاب هو المكان الأنسب كسلطة تشريعية لبحث هكذا شؤون، بعيداً من خلفيات بعض النواب المُغلّفة بعقائد وأيديولوجيات طواها الزمن. أو أولئك الذين لا يزالون يربطون الفدرالية عن جهلٍ أو عن قصدٍ بالتقسيم، أو تصويرها كأنها وحشٌ يجب محاربته ومخاصمته.
إزاء هذا الطبق الدسم المُضاف إلى مائدة الحياة النيابية، حيث يُتوقّع استمرار طرح هذا المطلب الفدرالي وتزخيم التفاعل حوله، في الجلسات النيابية المقبلة، توقّفت أوساط سياسية متابعة، عند كلام بعض النوّاب الذين يُفترض فيهم، أنهم يمثّلون مجتمعاتٍ ومكوّنات، عانت تاريخيّاً من سرديات "الواحد والموحّد".
واستغربت أن يتبنّى هؤلاء خطاباً، تعود أدبياته إلى مدرسة عتيقة، أثبتت فشلها في إنجاح التجربة اللبنانية، أو صونها من الحروب والنزاعات المريرة، المُتفجّرة مرّة بالبندقية والدم، ومرّات بأزمات سياسية ملتهبة، ترقص في كثير من الأوقات على حافة الحروب الأهلية.
كما أنّ سكب دماء اللبنانيين المتنوّعة والمُسيلة فوق جبهات مختلفة ومتباعدة عموديّاً وأفقياً، والمسفوكة تلبيةً لمعتقدات دينيّة ومشاريع متباينة وطنيّاً، لا تلتقي "لا دنيا ولا آخرة"، بالتالي إنّ حشر وكَبس تلك الفوارق بـ "سلّة واحدة"، أشبه بآتون لتذويب المعادن، لن يَرشح عنه لا قصّة منسجمة ولا كتاب موحّد ولا صورة أحادية.
فالدروس والعِبر التاريخية، أظهرت سقوط تلك المحاولات، على الرغم من نيات مطلقيها الحسنة والطيّبة والنابعة من حرصٍ كبيرٍ على لبنان.
كما انتقدت تلك الأوساط، بعض النوّاب الذين يُمارسون الفدرالية في بيئاتهم بأبعادها المجتمعية والثقافية وحتّى الحزبية بميلٍ، ويحاربونها أو يرفضونها علناً، بميلٍ آخر. وختمت بالقول "إننا انتظرنا الفدرالية يميناً، فأتتنا شمالاً".
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك