كتبت رنى سعرتي في "نداء الوطن":
في مطلع كلّ عام جديد، يأمل اللبنانيون خيراً، ثم ما تلبث أن تخيب ظنونهم. يأملون بالبحبوحة، ليحصدوا مزيداً من التعثّر. يأملون بحل قضية الودائع، ولا يحصلون سوى على حفنة دولارات بالقطّارة. يأملون بنمو وازدهار اقتصادي، وتكون النتيجة دماراً شاملاً وتعطّل كامل الدورة الاقتصادية... هل يمكن للعام 2025 أن يكسر القاعدة، ويحقق طموحات وآمال اللبنانيين؟
منذ العام 2019، يشهد البلد مساراً تراجعياً على مستوى كل المؤشرات الاقتصادية، رغم أن بعض القطاعات بدأت تلتقط أنفاسها في العام 2023، وكانت التوقعات تشير إلى إمكانية حصول نمو طفيف في العام 2024، إلا أن الحرب جاءت لتقضي على الآمال وفرص النمو، وتعيد الانكماش والجمود إلى معظم القطاعات الاقتصادية، ليبقى التعويل مع مطلع العام 2025، على إمكانية إطلاق عملية إعادة إعمار تنعش الدورة الاقتصادية، وعلى تدفقات مالية قد تنتج عن مساعدات دولية وعربية للبنان. لكنّ تلك الآمال تبقى رهن انتخاب رئيس للجمهورية وانتظام الوضع السياسي في البلاد. فهل يوضع القطار على سكة الإصلاح وما هي التحديات الاقتصادية للعام 2025؟
في هذا الإطار، اعتبر الوزير السابق والخبير المصرفي عادل أفيوني أنه مع بداية كلّ سنة يواجه الاقتصاد اللبناني التحديات نفسها وتمرّ السنة من دون معالجة أيّ من الأزمات البنيوية التي يعاني منها الاقتصاد، وتتفاقم التحديات وتزداد حدّتها على المواطن اللبناني نتيجة التقاعس في مواجهة الأزمة، موضحاً لـ"نداء الوطن" أن أهمّ هذه الأزمات البنيوية" التي بحّ صوتنا ونحن نطالب بمعالجتها هي:
أوّلاً: معالجة أزمة مالية الدولة وتعثّرها وضرورة إصلاح المالية العامة والسياسات الضريبية بطريقة جذرية وعصرية، وإعادة هيكلة الدين العام حتى تستعيد الدولة قدرتها على تمويل حاجاتها وعلى الاستثمار في القطاعات الإنتاجية وتحفيز النمو". ولا يمكن أن نستعيد العافية الاقتصادية طالما الدولة عاجزة عن الإنفاق. وفي ظلّ غياب الإصلاح المالي، ستبقى الدولة غائبة عن أي دور استثماري وغائبة عن تلبية أي من مسؤولياتها الأساسية والإنفاقية، "وهذا الأمر يخنق الاقتصاد".
ثانياً: معالجة أزمة القطاع المصرفي المتفاقمة منذ أكثر من 5 سنوات، "وهذه سابقة خطيرة في الإهمال والاستهتار لم نشهد لها مثيلاً، وكلفتها باهظة على الاقتصاد". إذ كيف يمكن تفعيل النمو الاقتصادي من دون وجود قطاع مصرفي فعّال وسليم يقوم بدوره في تمويل الحركة الاقتصادية والنمو وفي دعم القطاع الخاص والمبادرات الفردية ورواد الأعمال؟
يؤكد أفيوني أن إعادة هيكلة البنك المركزي وإعادة هيكلة القطاع المصرفي بطريقة علمية وعادلة، أولوية كبرى لمواجهة التحديات الاقتصادية وبناء اقتصاد متين.
ثالثاً: معالجة أزمة المودعين الذين يعانون الظلم منذ أكثر من خمس سنوات، "وهذا غبن غير مسبوق لعشرات الآلاف من المواطنين الذين فقدوا جنى عمرهم ومدّخراتهم وسقطوا تحت خط الفقر، بسبب الإهمال في معالجة أزمة المودعين وفي تعويضهم"، مؤكداً أن انعكاسات هذه الكارثة المالية والاجتماعية على الاقتصاد وعلى المجتمع باهظة ولا قيامة للاقتصاد ولا صيانة للمصارف ولا ثقة بها من دون حلّ عادل لقضية المودعين، معتبراً أن نمط التعطيل والتأجيل وتقاذف التّهم الذي أجهض أيّ حل ممكن لقضية المودعين منذ 5 سنوات حتى اليوم، هو جريمة في حق المودعين، يجب أن يوضع حدّ لها، وأن يعطي العهد القادم أولوية لمعالجة هذه الكارثة.
رابعاً: إعادة بناء الاقتصاد على قواعد سليمة وتحفيز النمو وخلق فرص العمل وتفعيل القطاعات الإنتاجية. وأكد أفيوني في هذا السياق، أن هناك تحديات إضافية وصعبة هذا العام لإعادة تحفيز النمو، في ظلّ التداعيات التي ولّدتها الحرب المدمّرة التي شنّتها إسرائيل على لبنان طوال العام الماضي، حيث أن تعويض خسائر الحرب التي كبّدت القطاع الخاص كلفة باهظة، إعادة الإعمار، إعادة تأهيل البنى التحتية وتأمين الاستقرار الاجتماعي والمعيشي لآلاف العائلات المتضرّرة، سيتطلّب جهوداً كبيرة للحصول على التمويل ولوضع خطة إنقاذ فعالة تثق بها الدول المانحة.
وأضاف: "هذا طبعاً غيض من فيض التحديات التي نواجهها هذا العام وكل عام. والمطلوب اليوم إطلاق ورشة إعادة بناء اقتصادية مالية مصرفية جذرية تعالج الأزمات المعيشية التي تعصف بالمواطن وتطلق عجلة الإصلاحات العصرية التي طال انتظارها، وتؤسس لاقتصاد منتج يخلق فرص عمل وفرص نمو مستدامة، ويواكب التطورات التكنولوجية الحديثة والثورة الرقمية ويمنح المواطن والمبادرات الفردية ورواد الأعمال والمؤسسات الصغرى، فرص الازدهار بعدالة من دون تمييز، ويستقطب الثقة والاستثمارات الخارجية ويقضي على الاحتكار وسيطرة المصالح الخاصة على مرافق الاقتصاد".
وفيما أكد أنه مشروع ضخم وطموح، أشار إلى أن الشباب اللبناني لديه الطاقات والقدرات لتحقيق ذلك "ويستحق أن نوفر له فرص النجاح في بلده. وما ينقصنا منذ سنوات ليس الطاقات البشرية بل الإرادة السياسية والحكم المتنوّر المخلص الذي يملك النية والعقلية لإطلاق مثل هذه الورشة الإصلاحية وتنفيذها".
كيف ستختلف التوقعات بين انتخاب رئيس للجمهورية وعدم انتخابه؟
يجيب أفيوني: طبعاً كل ما ذكرته أعلاه يتطلّب وجود سلطة عصرية إصلاحية على رأس الدولة ونهج إصلاحي في العمل العام يغلّب المصلحة العامة ومصلحة المواطن على كل المصالح الخاصة. للأسف نحن نعاني من العكس تماماً إذ هناك فراغ في رئاسة الجمهورية، وتدير البلاد حكومة صلاحياتها محدودة بتصريف الأعمال، في حين أن مجلس النواب منقسم بين المصالح الخاصة، وعاجز عن إقرار أو عن الاتفاق على أي إصلاح جدّي. وهذا طبعاً ما أدّى إلى الجمود في كل الملفات الإصلاحية لمعالجة الانهيار، وإلى التراجع المستمر في الوضع الاقتصادي وفي الوضع المعيشي لغالبية اللبنانيين باستثناء قلّة من المحظيين.
وأضاف: إذاً، في غياب رئيس الجمهورية وفي غياب حكومة إصلاحية فعّالة، ستستمر حالة الجمود السياسي وستتفاقم الأزمة المعيشية وسترتفع كلفة إعادة النهوض، وسيدفع المواطن العادي الثمن كالعادة.
التوقعات الاقتصادية
وحول المؤشرات الاقتصادية المتوقعة، أشار أفيوني إلى عدم إمكانية إطلاق ورشة إعادة إعمار جدّية من دون تمويل خارجي، ولن يكون هناك تمويل خارجي من دون إصلاحات جدّية ومن دون ترجمة فعلية لهذه الإصلاحات. إذا توفّرت الإرادة السياسية لتنفيذ الإصلاحات، هناك فرصة تاريخيّة للبنان لاستعادة الثقة ولاستقطاب الاستثمارات والدعم من الخارج وإعادة النهوض وتحفيز النمو، وعندها يمكن أن تصل نسبة النمو إلى مستويات مرتفعة، إذ إن حجم الاقتصاد اللبناني تقلّص منذ اندلاع الأزمة في 2019 إلى النصف، وبالتالي فإن قدرته على النمو من المستويات المنخفضة الحالية، مرتفعة إذا ما توفّرت الإصلاحات والثقة ومصادر التمويل لتحفيز ذلك.
مصير اليوروبوندز
وحول مصير سندات اليوروبوندز، شرح أفيوني أنه في آذار 2025، تنتهي فترة السماح القانونية البالغة 5 سنوات والتي يتمتّع بها مصدّرو اليوروبوندز، وسيصبح حملة اليوروبوندز مضطّرين لرفع دعاوى على الدولة اللبنانية لضمان حقوقهم في المبالغ المستحقة من فوائد اليوروبوندز. متوقعاً تصعيداً قضائياً من حملة تلك السندات في 2025، وهو الأمر الذي سيزيد الضغوطات على الحكومة اللبنانية.
لذلك أكد أفيوني أن لا مفرّ أمام الدولة اللبنانية من الاتفاق مع حملة اليوروبوندز عاجلاً أم آجلاً على إعادة الهيكلة، مشدداً على ضرورة أن يجري هذا الأمر عاجلاً، وأن يتمّ وضع حدّ لسياسات التسويف والتأجيل والتعطيل الكارثية، إذ لا مجال للتذاكي على المؤسسات الاستثمارية الدولية في هذا الموضوع، والثمن في المحاكم والمحافل الدولية باهظ. ولفت في هذا الإطار، إلى ضرورة أن تتم إعادة هيكلة اليوروبوندز بطريقة عادلة للدولة اللبنانية وبطريقة تحمي حقوق المودعين اللبنانيين ولا تفضّل حملة اليوربوندز عليهم. مشيراً إلى أن هذا الامر يتطلّب وجود فريق عمل حكومي ضليع في هذه الأمور ولديه الصلاحيات للتوصّل إلى اتفاق يحفظ حقوق الدولة اللبنانية ويحمي حقوق المودعين، وينهي في الوقت نفسه، الوضع الشاذ الحالي الذي أقصى الدولة اللبنانية عن أي إمكانية تمويل خارجي منذ أكثر من 4 سنوات.
إعادة هيكلة للمصارف
شددّ أفيوني على أنه من غير الوارد أن تستمرّ المصارف على وضعها الحالي، مشيراً إلى ضرورة إعادة هيكلتها بأسرع وقت، لأن البلاد في أمسّ الحاجة إلى قطاع مصرفي فعّال وسليم يحوز على ثقة المستثمرين والمودعين ويتحمّل مسؤوليته ودوره في تمويل الاقتصاد.
وأوضح أن عملية إعادة هيكلة المصارف ترتكز على مبادئ علمية معروفة ولا مبرّر أبداً لتعطيلها ونكرانها وتأجيلها منذ 5 سنوات، "فهذا بمثابة استهتار غير مسبوق بمصير المودعين، وجريمة في حقّهم، وخطيئة في حق الاقتصاد". معتبراً أن إعادة هيكلة المصارف أولوية لا يمكن أن تتم من دون إعادة هيكلة المصرف المركزي وإعادة هيكلة الدين العام، لأنها أمور شائكة ومترابطة لا تعالج بحلول ترقيعية.
كما أشار إلى أن إعادة هيكلة المصارف لا يمكن أن تتمّ في غياب إرادة مستقلة واضحة تعطي الأولوية للمودعين ولا تخضع لضغوط المصالح الخاصة، بل تحكّم المنطق المالي السليم والعدالة الاجتماعية، "وهذا ليس أمراً صعباً إذا توفّرت الإرادة السياسية والنوايا الصافية".
وختم: مرّت دول كثيرة بأزمات مصرفية وأعادت هيكلة مصارفها بطريقة علمية، إلا أن التقاعس والإهمال الذي شهدناه في لبنان في موضوع إعادة هيكلة المصارف، كلّف المودعين غالياً وكبّدهم خسائر يجب تعويضها، وهو وصمة عار على سمعة القطاع في العالم العربي وفي الغرب.
من جهته، قال الخبير في أسواق البورصة جهاد الحكيّم، إن إعادة هيكلة المصارف اللبنانية بالتزامن مع العمل على جذب مصارف عربية وعالمية إلى لبنان هي من أولى التحديات الاقتصادية في العام 2025 بالإضافة إلى إيجاد حلّ منطقيّ لأزمة المودعين ضمن خطة إنقاذ في مدّة زمنية معقولة يتم التوافق عليها بين الأطراف المعنيّة. مشدداً على ضرورة التخلّص من الاقتصاد النقدي بشكل تدريجي والحدّ من آثاره السلبية، كونه مرادفاً للفقر ومرتعاً لتبييض الأموال وبالتالي التهرّب الضريبي.
كما لفت إلى ضرورة إيجاد حلّ لأزمة اليوروبوندز وتفادي رفع حامليها دعاوى قضائية ضدّ الدولة اللبنانية، تمهيداً لعودة لبنان إلى الأسواق المالية العالمية، مشيراً إلى أن الاتفاق على برنامج مع صندوق النقد الدولي يسهّل تلك العملية.
من ناحية أخرى، أكد على أهمية العمل على وضع لبنان على الخارطة الرقمية من خلال التحوّل الرقمي وتشجيع اقتصاد المعرفة، وعلى وجوب العمل على بناء أسواق مالية متطورة.
وأوضح أن التحديات الاقتصادية للعام 2025 تشمل أيضاً إعادة تأهيل وإنشاء البنية التحتية اللازمة وخلق بيئة حاضنة لجذب الاستثمارات الخارجية المباشرة.
وفيما أكد حكيّم أن التغيير الجذري في الطبقة السياسية الحاكمة وفي المسؤولين عن السياسات المالية والنقدية، يسهم بشكل كبير في استعادة ثقة الداخل والخارج وفي جذب الاستثمارات المحلية والأجنبية، أشار إلى أهمية استقلالية القضاء، إذ "لا اقتصاد من دون قضاء عادل وآمن".
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك