نسي الموت رجلاً ثمانينيّاً على الرصيف، حيث تذكّره الفقر والعوز والمرض، ولكنّ الكرامة اللبنانية لم تفارق قلب ذلك العجوز الذي حمل أنبوبة الأوكسيجين ونرابيشها، واحتضن آلة العود التي لم يبق له غيرها صديق في هذه الحياة، وجلس إلى جانب سيل المتظاهرين في ساحة الشهداء ينقر أوتار عوده ويصدح صوته بأغانٍ طربية قديمة، يلفت من خلالها نظر المارة إلى طربوش أحمر موضوع أمامه يحمل في داخله كمشة ألوف وخمسات.
أبو ريتا، كما يعرّف عن نفسه، يلبس بيجاما زرقاء مرقّطة و»شحّاطة» بلا كلسات تكشف أصابع رجليه التعبة من البرد، يحمل آلة عود من عمره أو أكبر وحالتها ليست أفضل من حاله الصحيّة. أنفاسه متقطّعة ولا يسعفها غير أنبوبة الأوكسيجين التي يضعها إلى جانبه ويُسمع صوتها يقاطع غناءه لتضخّ الهواء إلى رئتيه التعبتين من العمر والتلوّث والمرض.
يضع أبو ريتا ميكروفوناً أسودَ صغيراً على ياقته، موصولاً بمكبّر صوت متواضع يحاول إيصال النغمات إلى أكبر عدد من المارة علّهم يعطفون عليه ويتكرّمون من القليل الباقي في جيوبهم إلى طربوش أحمر صغير يحفظ كرامة هذا العجوز الذي يرفض الاستعطاء ومدّ يدّه من أجل لقمة العيش.
يضع أبو ريتا إلى جانبه لافتة مكتوباً عليها بالأحمر أنّه سيواصل الغناء حتى النهاية ويرفض مدّ يده لأحد، لأنّه اختار أن يثور مثله مثل الشعب اللبناني بكرامة وعزّة وعلى طريقته، ويختم اللافتة بثلاث كلمات «ثورة»، اختارها أن تكون بالفنّ الصادح من رئتين تشتهيان التنفّس بحريّة.
أبو ريتا يرتدي البيجاما التي لم يهرب فيها من الواقع الأليم، ولا سمح لها أن تبقيه داخل جدران منزله المتواضع... يلبس البيجاما التي لم يبق في خزانته غيرها تستر فقره، يتخايلها بدلة رسمية ثمينة فقط لأنّها تستر عورته ولا يخجل توزيع الابتسامات والقبلات والتشكّرات وكأنّه نجم مسرح جعل حجارة الرصيف العام خشبته.
يبكي أبو ريتا كلّما تجمهر بضعة أشخاص حوله، يتأثر بعاطفتهم التي تنسيه ظلم السياسيين في هذا البلد، ونكرانهم لجميل العجزة الذين حرسوا الماضي وتحمّلوه وتعايشوا معه على رغم الويلات والحروب.
قصّة أبو ريتا ليست قصّة شخص، بل قصّة ثلاثة أرباع العجزة في هذا البلد الحزين، الذي اختار مجلس نوّابه الانعقاد أمس لبتّ قانون العفو العام، بدل السعي مثلاً إلى سنّ قانون ضمان الشيخوخة، أو الضغط من اجل تشكيل حكومة مستقلّة تنتشل البلد من جورة الفساد والانهيار الاقتصادي الحتمي...
قصّته قصّة الشباب أيضاً، الذين ينظرون إلى المستقبل ويرون أنفسهم جالسين على رصيف أحد الشوارع يستعطفون المارة من أجل لقمة عيش كريمة، أو نهاية عمر غير ذليلة على باب مستشفى أو على عتبة مأوى عجزة، أو الى جانب حاوية نفايات يبحثون فيها عن بقايا أكل الفقراء ليسدّوا جوعهم.
قصّته قصّة النساء في لبنان اللواتي يبحثن عن مجلس نيابي يقرّ قوانين تحمي أحوالهم الاجتماعية وحقوقهم المدنية والعائلية، نساء يبحثن عن مسؤولين في وطن كي لا يبقين فيه ذليلات لإرادة الذكر وطباعه الغشيمة.
أبو ريتا فقير ومريض ووحيد، يبحث عن ريتا في الشوارع ولا يجد ابنة هاجرت لتتعلّم أو أصيبت في حرب، أو ماتت في معركة الزعران، أو أصيبت بالسرطان من هواء الزعماء الفاسد...
أبو ريتا فقير، ولكنّه أغنى من غيره من الفقراء بصوته وإلمامه بالعزف على آلة العود، تبقي له قليلاً من كرامة آخر العمر على رصيف حجارته أحنّ من قلوب التجّار والنواب والوزراء المتحجّرة.
ويسأل بعض الناس لماذا الشارع ينتفض، لماذا الشارع يثور ويغضب، ولماذا الشارع يرفض الطبقة السياسية عن بكرة أبيها... الشارع يثور من أجل أبو ريتا، ومن أجل جميع العجزة في لبنان. الشارع يثور من أجل الصبيان والبنات الصغار، ويثور من أجل المراهقين والمراهقات، ومن أجل النساء والرجال...
الشارع يثور من أجل مواطنين يريدون زفتاً يحترم وجودهم، ومؤسسات تحترم حقوقهم، وسياسيين يحترمون حريّتهم، ودور عبادة تحترم اختلافهم... الشارع يثور من أجل لبنان جديد يليق بالشعب القوي.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك