دخل لبنان في 17 تشرين الأول في مرحلة سياسية جديدة عنوانها الأساس دخول الناس على خط المشهد السياسي، وكل المؤشرات تدلّ إلى أنّ الناس خرجوا من بيوتهم ولن يعودوا إليها قريباً.
لن يهدأ الشارع الذي استفاق فجأة على مساوئ سلطة سياسية كل هدفها التجديد لنفسها حفاظاً على مواقعها ومكاسبها ومصالحها ومن دون أن تقدّم شيئاً للناس والبلد، وكانت تظنّ أنّ أحداً لا يستطيع تهديد وجودها ودورها وحضورها، إلى أن انفجر الشارع غضباً ووجد أنّ باستطاعته التأثير وصولاً إلى التغيير، في حال حافظ على وحدته وديناميته.
والمحرِّك الأساس لهذا الشارع يكمن في أداء الأكثرية الحاكمة التي تتجاهل مطالبه، فهذه الأكثرية كانت ضد استقالة الحكومة، ولن تشكِّل حكومة بعيدة عن القوى السياسية، كما يطالب الناس، كما لن تقصِّر ولاية مجلس النواب.
وبالتالي، كيف يمكن للناس، الذين اكتشفوا أنفسهم ووجدوا مدى القدرة على التأثير، أن يخرجوا من الشارع ما دام مطلبهم بحكومة اختصاصيين لم يتحقّق، ودعوتهم الى إجراء انتخابات مبكرة غير مدرجة في جدول أعمال الأكثرية الحاكمة؟
وما زال رهان هذه الأكثرية على فَرط الحراك وتعب الناس، وما زال التنازل غير وارد، فلا حكومة تكنوقراط مقبولة بالنسبة إليها، ولا حكومة من لون واحد مطروحة لديها أساساً كونها غير قابلة للحياة، والكلام على حكومة تكنو- سياسية لا يعدو كونه نسخة طبق الأصل عن الحكومة الحالية التي تضمّ وجوهاً تكنوقراطية، والمشكلة كانت وما زالت في هذه الأكثرية المُهيمنة على القرار التي أوصلت لبنان الى الانهيار والخراب.
ولكن هناك اليوم بالنسبة إلى الناس فرصة حقيقية للتغيير، وهي من الفرَص النادرة، والصراع القائم هو بين ديناميةٍ شعبية تريد الاستفادة من زخم الحركة الشعبية لتحقيق أوسع اختراق ممكن في بنية السلطة وعملها، وبين أكثرية حاكمة تريد ضرب هذا الزخم من أجل إبقاء القديم على قِدمه، ومن هذا المنطلق يسعى الناس للوصول الى حكومة خالية من القوى السياسية وتقريب موعد الانتخابات لترجمة الاندفاعة الشعبية وتسييلها داخل صناديق الاقتراع.
وإذا نجح أركان الحكم في إجهاض الثورة الشعبية، فذلك يعني تمديد الواقع القائم، فيما مواصلة ربط النزاع يشكّل مصلحة شعبية من أجل التخلُّص من هذا الواقع بأسرع وقت ممكن. وعلى رغم انّ مواجهة من هذا النوع لا تنتهي بالضربة القاضية، إلّا أنّ مراكمة النقاط مسألة ضرورية بغية وضع لبنان على السكة الصحيحة.
وإذا كانت الضربة القاضية متعذّرة على المسار الوطني العام، إلّا أنها حققت أهدافها على مستوى الوزير جبران باسيل الذي لم يعد بإمكانه وحتى إشعار آخر أن يتوَزّر، وهذا الهدف الشعبي بإخراجه من الحكومة ومن وزارة سيادية ومهمة للتواصل مع العالم الخارجي ليس تفصيلاً، كما أنّ ورقته الرئاسية احترقت بالكامل، إذ يستحيل ترشيح شخصية لموقع رئاسة الجمهورية تشكّل استفزازاً لمعظم الشعب اللبناني، وأمّا العمل على ترميم صورته فلن يكون بالسهولة التي يتصورها، ولكن هل يكتفي الناس بإبعاد باسيل عن الحكومة؟
كلّ المؤشرات تؤكد أنّ الناس لن يكتفوا بإبعاد باسيل عن الحكومة، إلا انه يجب ان لا يَسهو عن بال أحد انّ باسيل هو رمز العهد الأول، والناطق باسمه، والمنفِّذ لسياساته، ويتحمّل قسطاً أساسياً مما آلت إليه الأمور ربطاً بدوره المحوري في السلطة منذ عام 2008 ودوره «الرئاسي» منذ عام 2016، وتصويب الرأي العام ضده ليس من قبيل الصدفة أيضاً، إنما لأنّ «شاغل الدنيا ومالئ الناس» شَكّل بممارسته استفزازاً ما بعده استفزاز للرأي العام اللبناني العريض، وهذا ما يفسِّر تحوّل إبعاده عن السلطة الى هدف شعبي أساسي.
ولكن من هنا إلى أين؟ إذا كان تكليف الرئيس سعد الحريري هو المرجّح، فإنه في التأليف تكمن العقدة الأساس في ظل إصرار العهد و»حزب الله» على تأليف حكومة سياسية مقابل إصرار الشعب على تأليف حكومة غير سياسية.
وفي اللحظة التي سيوافق فيها الحريري على تشكيل حكومة من هذا النوع، ولو كانت مُجمّلة، تحت عنوان انّ تشكيلها يبقى أفضل من الفراغ الذي لم يعد يتحمّله البلد، وهذا ما هو متوقّع، فإنّ الشارع لن يمنحها فرصة للحكم من أجل تحقيق وعودها التي لن تبصر النور، وستترافق عملية نيلها للثقة في مجلس النواب مع عدم ثقة الناس في الشارع.
فالناس الذين رسموا بثورتهم الإستثنائية علامات استفهام كبرى حول شرعية المؤسسات الدستورية، وفي طليعتها مجلس النواب، لن يمنحوا ثقتهم لحكومة تُخالف توجهاتم، ولن يغطّوا ثقة مجلس نيابي لم يعد يعكس بدقة التمثيل الحقيقي للناس.
ويرجّح أن يكون المشهد السياسي في المرحلة المقبلة على الشكل الآتي: سلطة عاجزة عن الحكم، وشارع ثائر ضد السلطة، ما يعني دخول لبنان في مرحلة من عدم الاستقرار السياسي، والمسؤولية في ذلك تقع بطبيعة الحال على السلطة، لسببين جوهريين: السبب الأول، لكونها تتحمّل مسؤولية الوضع المأسوي للبلد والناس، بدءاً من كرامتهم وصولاً إلى معيشتهم.
والسبب الثاني، يكمن في رفضها التعامل مع مطالب الناس ورهانها المستمر على ضرب حركة الشارع بالوسائل التقليدية المُتّبعة، أي عن طريق تسييسه وتطييفه ومَذهبته وفَرطعته.
وفي خلاصة المشهد، انّ الشارع الذي دخل لاعباً أساسياً لا احتياطياً على الساحة الوطنية، لن يخرج مع التكليف ولا التأليف المتوقّع، ما يعني تحوّله الى مشهد مألوف في حياة اللبنانيين، على وَقع صراع سياسي طويل يصعب التكهُّن بكلفته ومآله ونهايته.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك