استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري كانت متوقعة في لحظة ما، ومع ذلك شكلت مفاجأة سياسية مدوية.. كانت متوقعة لأن مسار الانتفاضة الشعبية ونبض الشارع كان يوحي أن الاستقالة هي الثمن الذي يتوجب دفعه والأمر الوحيد الذي يُخرج الناس من الشارع ويفتح الطرقات، وأن الحريري واصل عاجلا أم آجلا الى الاستقالة، والمسألة لم تعد إلا مسألة وقت، بحيث يعلن الاستقالة بعد حصول توافق على الحكومة الجديدة والبديلة.
وتعزز الاعتقاد بوجود توجه نحو تغيير حكومي بعد كلمة الرئيس ميشال عون الى اللبنانيين، والتي أشار فيها صراحة الى ضرورة إعادة النظر في الواقع الحكومي، ولكن لم يعرف ما إذا كان المقصود بإعادة النظر تعديلا في حقائب وأسماء أم تغييرا شاملا وحكومة جديدة.. وكان الحريري أول من تلقف بارتياح وحماسة هذه الدعوة الرئاسية وبنى عليها، وبدا أن إعادة النظر بالوضع الحكومي ستتم بتوافق وتفاهم بين رئيسي الجمهورية والحكومة، ولكن هذا لم يحصل، وجاءت استقالة الحريري غير منسقة مع رئيس الجمهورية وبمنزلة استقالة أمر واقع تضع كرة النار والمسؤولية والموقف في يد ومرمى الرئيس عون.. وهنا يكمن عنصر المفاجأة.
فكرة الاستقالة راودت الحريري لأكثر من مرة منذ 17 الجاري. فكر بالأمر عندما هاجم مناصرون لحزب الله وحركة أمل متظاهرين وفي وسط بيروت في بدايات الانتفاضة.
كاد أن يقدم على الاستقالة بعدما سال الدم في البداوي (طرابلس) وحصل اشتباك بين الجيش والمتظاهرين، قبل أن يصار الى احتواء سريع للوضع، وتبين أن ما حصل كان بسبب توقيف أحد المطلوبين من «قادة المحاور» كان مشاركا في التظاهرات وتم الإفراج عنه سريعا لاحتواء غضب الشارع.
كما تأثر الحريري بضغوط داخلية تلقاها من كوادر تيار المستقبل ومكتبه السياسي، ومن الشارع السني عموما، الذي كان متعاطفا مع الانتفاضة الشعبية وجزءا منها، خصوصا في طرابلس.. ولكن السبب المباشر الذي دفع الحريري الى الاستقالة كان الخلاف مع رئيس الجمهورية وحزب الله حول «مضمون التغيير الحكومي»، لناحية أن يكون جزئيا أو شاملا.
وهنا حصل خلاف في الطروحات والمواقف التي توزعت بين خروج لكل وزراء الأحزاب من الحكومة والوجوه «الاستفزازية» خصوصا، واستبدالهم بشخصيات من التكنوقراط ورجال الاختصاص، وبين تغيير شامل ينقل الحكومة من «حكومة سياسية» الى «حكومة تكنوقراط» أو الى «حكومة تكنو ـ سياسية»، وتصبح حكومة مصغرة من 14 وزيرا.
ولكن العقدة التي برزت واعترضت خطة الحريري وأوصلته الى «الطريق المسدود» كما قال، كانت مسألة بقاء أو خروج الوزير جبران باسيل في أي تعديل أو تغيير حكومي.
الوزير باسيل، مدعوما من عون وحزب الله، يعتبر أن خروجه من الحكومة لوحده سيكون بمنزلة انتكاسة سياسية وضربة موجعة له ولتياره وللعهد، كونه يمثل معادلة سياسية كرئيس أكبر كتلة نيابية ووزارية مسيحية (ويمسك في يده أيضا ورقة استقالة الحكومة)، وشريك رئيسي في التسوية التي اختزلت في السنوات الثلاث بثنائية الحريري ـ باسيل.. لم يقبل باسيل أن يساوى بغيره من الوزراء السياسيين وأن يقايض خروجه بخروج وزير «أمل» علي حسن خليل أو وزير الاشتراكي وائل أبو فاعور أو وزير تيار المستقبل محمد شقير، وإنما طرح أن يخرج مع الحريري معا من الحكومة، وأنه إذا كان لابد من «حكومة تكنوقراط» فلتكن برئاسة شخصية غير سياسية وغير الحريري.
رفض الرئيس عون وحزب الله تحميل باسيل وزر ما يجري في الشارع وأن يدفع وحده الثمن.
وفي اللقاء الأخير مع الحريري، أصر عون على أن أي حكومة تكنوقراط لا تتضمن باسيل أو حزب الله ستكون من دون الحريري ضمنا، وتوقف البحث عند هذا الحد وغادر الحريري قصر بعبدا منزعجا.
وبعد هذا اللقاء انقطع التواصل مع رئيس الجمهورية الذي لم يكن في أجواء الاستقالة ولم يعلمه الحريري بها، في حين أنه أبلغ الى الثنائي الشيعي، وحزب الله أولا، نيته بالاستقالة.. ففي اجتماع جمعه مع المعاون السياسي للسيد حسن نصرالله (الحاج حسين الخليل)، أصرّ الحريري على تعديل وزاري يخرج باسيل أو الاستقالة.. وفيما رفض موفد حزب الله إخراج باسيل، رفض الحريري التجاوب مع طلب الخليل والتمني عليه بعدم الاستقالة تفاديا للفراغ.
وبعد هذا اللقاء أجرى الحريري اتصالا ببري ووضعه في أجواء قراره بالاستقالة وسمع منه كلاما مماثلا، ونصحه بعدم الاستقالة التي لا تشكل مدخلا للحل وإنما مدخلا الى أزمة أكثر تعقيدا. ولكن الحريري بقي على موقفه رغم محاولة ثانية قام بها بري ظهر اول من امس بإيفاد الوزير علي حسن خليل الى بيت الوسط، ولكن ما جرى في وسط بيروت عندما هاجم مناصرون لحركة أمل وحزب الله ساحة الاعتصام، عزز قناعة الحريري بالاستقالة التي حصلت «على السخن» وعلى إيقاع شارع متأرجح بين التوتر والتفجر.
الاستقالة صارت واقعا.. ماذا بعدها؟! وأي مسار للأزمة التي يمكن أن تتدرج من أزمة تكليف الى أزمة تأليف، ومن أزمة حكومة الى أزمة حكم؟!
حققت الاستقالة نتيجة إيجابية فورية في «تنفيس واحتواء» غضب الشارع وإطلاق مسار تفكيك الوضع المقفل على الأرض، والبدء بفتح الطرقات وإزالة هذا «اللغم» الذي كان أصبح قابلا للانفجار، وكانت أحداث وسط بيروت بمثابة نموذج وعينة لما يمكن أن يحدث.
مع استقالة الحريري التي حققت أول وأهم أهداف الانتفاضة الشعبية، يفقد الشارع زخم التحرك، خصوصا في ظل وجود تباين داخل صفوفه بين من يعتبر أن الاستقالة حققت هدفا ثمينا للثورة وتعد خطوة كافية لفتح الطرقات مع الاستمرار في الضغوط والتظاهرات للإتيان بحكومة جديدة غير سياسية وبرئاسة الحريري لا مشكلة ولا مانع.. وبين من يعتبر أن الاستقالة لا تكفي، وأن الضغط يجب أن يتواصل لتحقيق أهداف أخرى وتحصيل تنازلات سياسية جديدة، خصوصا في مجال إجراء انتخابات مبكرة على أساس قانون جديد.. ولكن «الشارع» سيكون مشدودا من اليوم فصاعدا الى الأزمة المالية والنقدية الخانقة، مع دخول الوضع الاقتصادي في نفق الانهيار، وفي ظل فراغ حكومي وسقوط شبكة الأمان السياسية.
الاستقالة حققت نتيجة إيجابية فورية أخرى، وهي «انتعاش» شعبية الحريري في الشارع السني وخروجه من حال «انعدام الوزن السياسي» نتيجة عدم تطابق وعدم انسجام بين واقع سياسي يلزمه بالمساكنة مع حزب الله وحلفائه تحت سقف التسوية، وبين واقع شعبي يشد به للخروج من هذا التعايش الذي صار مكلفا ووضعه في دورة تنازلات لا تتوقف.. وكان الحريري واجه ضغوطا قوية من داخل تياره وجمهوره وطائفته للاستقالة، خصوصا بعد استقالة وزراء القوات اللبنانية وإعلان جنبلاط رغبته بالاستقالة ولكن مع الحريري وليس من دونه.. والآن يبدو الحريري وكأنه التحق بمعسكر المعارضة وصفوف الشعب، ولم يعد مطلوبا في إطار مقولة أو معادلة «كلن يعني كلن»، بقدر ما صار «بطلا» بفعل الاستقالة التي تفاعل معها مؤيدوه كخطوة شجاعة تعيد إنتاج صورة «سعد رفيق الحريري»، وتضخ دما جديدا في عروق رصيده الشعبي المتهاوي.. فيما يعتبرها خصومه «مغامرة سياسية وقفزة في المجهول».. وهناك من يراها «استقالة مفصلية» تشبه استقالة الرئيس رفيق الحريري في 2004 التي أنهاها بعبارة «أستودع الله لبنان الحبيب»، وكان لافتا ومعبرا أن يستعين الرئيس سعد الحريري بعبارة شهيرة كان يرددها والده الشهيد «ما حدا أكبر من بلدو»، وأن يختم إعلان استقالته بعبارة «الله يحمي لبنان».
لوهلة أولى ظن كثيرون أن الاستقالة منسقة بين الحريري وعون في إطار سيناريو احتواء الأزمة وإخراجها من الشارع، وتوافق مسبق على الحكومة الجديدة يحول دون إطالة أمد الفراغ الحكومي.. ولكن سرعان ما تبين أن الاستقالة لم تكن منسقة وإنما قوبلت بـ «دهشة وصدمة» من جانب باسيل ووزراء التيار، وأن الحريري أقدم على هذه الخطوة كي يجعل التغيير الحكومي أمرا واقعا ويعود الى رئاسة الحكومة بشروطه، وعلى أساس حسابات لديه تفيد بأنه يشكل حاجة وضرورة للعهد ولحزب الله وللاستقرار النقدي ولعلاقات لبنان العربية والدولية، وأن استقالته تعزز موقعه التفاوضي وتجعل من مسألة إقصاء باسيل أمرا متاحا في أي حكومة جديدة.
ولكن لدى خصوم الحريري حسابات ونظرة مختلفة لوضع ما بعد الاستقالة. فهذه الاستقالة التي تعيد المشهد السياسي الى ما كان عليه بين 8 و14 آذار أعادت تكتيل معسكر 8 آذار مع انضمام نبيه بري وسليمان فرنجية الى موقف حزب الله بالكامل.
وهذا الفريق أجرى طيلة ليل اول من امس اتصالات ومشاورات لتحديد خيارات المرحلة وكيفية التعاطي مع الوضع المستجد، بما في ذلك مسألة من يكون رئيس الحكومة المقبل، إذا ليس محسوما موضوع إعادة تسمية الحريري، وسيكون هناك تريث قبل إطلاق استشارات التكليف وبحث في بدائل ممكنة ومحتملة، خصوصا أن هذا الفريق لديه أكثرية النصف زائد واحد.. وبالتالي فإن تجاذبا حاصلا في «معركة التكليف» وثمة أسئلة مطروحة: هل عودة الحريري الى رئاسة الحكومة مسألة بديهية وخارج النقاش؟! وهل من بديل جاهز وقادر على تخطي الموقف السني العام الذي يعتبر الحريري ممثلا شرعيا ووحيدا للطائفة السنية في الحكم؟! وهذا ما أكده الدفق السني الى بيت الوسط بعد الاستقالة وعلى رأسه المفتي عبداللطيف دريان، كما أكده البيان السياسي الذي عاجل به رؤساء الحكومات السابقين (نجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة وتمام سلام) الجميع، وبعثوا من خلاله برسالة سريعة الى رئيس الجمهورية وحزب الله! وإذا كان ثمة بديل، هل يكون وسطيا مثل فؤاد المخزومي أم يكون من سنة 8 آذار وواحدا من أعضاء «اللقاء التشاوري»؟! وهل يحتمل الوضع خطوة استفزازية من هذا النوع وبهذا الحجم؟!
وبعد معركة التكليف، تنشب «معركة التأليف».. فإذا كان من السهل حسم اسم الرئيس المكلف وباتجاه سعد الحريري، فإنه من الصعب على الحريري تشكيل حكومة جديدة بشروطه، وسيصطدم مجددا بالجدار الذي اصطدم به قبل الاستقالة وبمسألة توزير الوزير جبران باسيل وضمنا تمثيل حزب الله في الحكومة.. وتوحي أجواء بعبدا وحارة حريك أن الحريري لا يمكنه أن يشكل حكومة بشروطه، لا بل أكثر من ذلك، إذا رغب في العودة فإنه يعود بشروط حزب الله الذي ارتفعت لديه درجة الشكوك والتوجس مما يجري، وما كان أبداه من خشية وشكوك صار أمرا مؤكدا ومثبتا بالوقائع ومسار تطور الأوضاع.
حزب الله بات يتعاطى مع الوضع من خلفية أن الحريري فجر قنبلة الاستقالة في وجه شركائه في الحكم، واستقال من دون تفاهمات وضمانات، ولم يأبه للنصائح التي أسديت إليه بتفاهم مسبق حول الحكومة الجديدة حتى لا يحصل فراغ وأزمة، لأن لا بدائل متاحة للحكومة الحالية، بالإضافة الى الصعوبات الكبيرة السياسية والأمنية والمالية.
في التقييم السياسي لحزب الله وحلفائه أن الحريري وضع نفسه في حالة «الشبهة السياسية» عندما أعطى باستقالته مكسبا سياسيا للفريق الداعي الى التظاهر والداعم له.
وبدا على تنسيق مع جهات داخلية ودولية تدفع باتجاه إضعاف العهد ومحاصرة حزب الله.
وهذا التغيير يصل الى حد توجيه اتهام للحريري بأنه يغطي «انقلابا سياسيا» ويتحمل مسؤولية تهديد ونسف التسوية الرئاسية، وبأنه منخرط بشكل أو بآخر في مخطط إسقاط حزب الله من المعادلة السياسية والحكومية، وهذا هو الجانب المخفي في الدعوة الى حكومة تكنوقراط.
أسئلة كثيرة تطرح اليوم: هل إعلان الرئيس الحريري الاستقالة من دون التنسيق مع شركائه وتأمين توافق على حكومة جديدة هو إعلان إنهاء التسوية الرئاسية في منتصف العهد، وعشية حلول الذكرى السنوية الثالثة لانتخاب العماد ميشال عون رئيسا؟! وهل يمكن لحزب الله أن يوافق بسهولة على استبعاد وإضعاف حليفه الأساسي والشريك المسيحي في التسوية؟! وهل الأيام القليلة المقبلة كفيلة بتحديد مسار المرحلة باتجاه إعادة ترميم وتعويم التسوية على قاعدة حكومة سياسية متفاهم عليها مع الحريري، أم باتجاه فراغ طويل الأمد مفتوح على كل الاحتمالات ومحفوف بمخاطر انهيارات مالية وأمنية؟!
وتعزز الاعتقاد بوجود توجه نحو تغيير حكومي بعد كلمة الرئيس ميشال عون الى اللبنانيين، والتي أشار فيها صراحة الى ضرورة إعادة النظر في الواقع الحكومي، ولكن لم يعرف ما إذا كان المقصود بإعادة النظر تعديلا في حقائب وأسماء أم تغييرا شاملا وحكومة جديدة.. وكان الحريري أول من تلقف بارتياح وحماسة هذه الدعوة الرئاسية وبنى عليها، وبدا أن إعادة النظر بالوضع الحكومي ستتم بتوافق وتفاهم بين رئيسي الجمهورية والحكومة، ولكن هذا لم يحصل، وجاءت استقالة الحريري غير منسقة مع رئيس الجمهورية وبمنزلة استقالة أمر واقع تضع كرة النار والمسؤولية والموقف في يد ومرمى الرئيس عون.. وهنا يكمن عنصر المفاجأة.
فكرة الاستقالة راودت الحريري لأكثر من مرة منذ 17 الجاري. فكر بالأمر عندما هاجم مناصرون لحزب الله وحركة أمل متظاهرين وفي وسط بيروت في بدايات الانتفاضة.
كاد أن يقدم على الاستقالة بعدما سال الدم في البداوي (طرابلس) وحصل اشتباك بين الجيش والمتظاهرين، قبل أن يصار الى احتواء سريع للوضع، وتبين أن ما حصل كان بسبب توقيف أحد المطلوبين من «قادة المحاور» كان مشاركا في التظاهرات وتم الإفراج عنه سريعا لاحتواء غضب الشارع.
كما تأثر الحريري بضغوط داخلية تلقاها من كوادر تيار المستقبل ومكتبه السياسي، ومن الشارع السني عموما، الذي كان متعاطفا مع الانتفاضة الشعبية وجزءا منها، خصوصا في طرابلس.. ولكن السبب المباشر الذي دفع الحريري الى الاستقالة كان الخلاف مع رئيس الجمهورية وحزب الله حول «مضمون التغيير الحكومي»، لناحية أن يكون جزئيا أو شاملا.
وهنا حصل خلاف في الطروحات والمواقف التي توزعت بين خروج لكل وزراء الأحزاب من الحكومة والوجوه «الاستفزازية» خصوصا، واستبدالهم بشخصيات من التكنوقراط ورجال الاختصاص، وبين تغيير شامل ينقل الحكومة من «حكومة سياسية» الى «حكومة تكنوقراط» أو الى «حكومة تكنو ـ سياسية»، وتصبح حكومة مصغرة من 14 وزيرا.
ولكن العقدة التي برزت واعترضت خطة الحريري وأوصلته الى «الطريق المسدود» كما قال، كانت مسألة بقاء أو خروج الوزير جبران باسيل في أي تعديل أو تغيير حكومي.
الوزير باسيل، مدعوما من عون وحزب الله، يعتبر أن خروجه من الحكومة لوحده سيكون بمنزلة انتكاسة سياسية وضربة موجعة له ولتياره وللعهد، كونه يمثل معادلة سياسية كرئيس أكبر كتلة نيابية ووزارية مسيحية (ويمسك في يده أيضا ورقة استقالة الحكومة)، وشريك رئيسي في التسوية التي اختزلت في السنوات الثلاث بثنائية الحريري ـ باسيل.. لم يقبل باسيل أن يساوى بغيره من الوزراء السياسيين وأن يقايض خروجه بخروج وزير «أمل» علي حسن خليل أو وزير الاشتراكي وائل أبو فاعور أو وزير تيار المستقبل محمد شقير، وإنما طرح أن يخرج مع الحريري معا من الحكومة، وأنه إذا كان لابد من «حكومة تكنوقراط» فلتكن برئاسة شخصية غير سياسية وغير الحريري.
رفض الرئيس عون وحزب الله تحميل باسيل وزر ما يجري في الشارع وأن يدفع وحده الثمن.
وفي اللقاء الأخير مع الحريري، أصر عون على أن أي حكومة تكنوقراط لا تتضمن باسيل أو حزب الله ستكون من دون الحريري ضمنا، وتوقف البحث عند هذا الحد وغادر الحريري قصر بعبدا منزعجا.
وبعد هذا اللقاء انقطع التواصل مع رئيس الجمهورية الذي لم يكن في أجواء الاستقالة ولم يعلمه الحريري بها، في حين أنه أبلغ الى الثنائي الشيعي، وحزب الله أولا، نيته بالاستقالة.. ففي اجتماع جمعه مع المعاون السياسي للسيد حسن نصرالله (الحاج حسين الخليل)، أصرّ الحريري على تعديل وزاري يخرج باسيل أو الاستقالة.. وفيما رفض موفد حزب الله إخراج باسيل، رفض الحريري التجاوب مع طلب الخليل والتمني عليه بعدم الاستقالة تفاديا للفراغ.
وبعد هذا اللقاء أجرى الحريري اتصالا ببري ووضعه في أجواء قراره بالاستقالة وسمع منه كلاما مماثلا، ونصحه بعدم الاستقالة التي لا تشكل مدخلا للحل وإنما مدخلا الى أزمة أكثر تعقيدا. ولكن الحريري بقي على موقفه رغم محاولة ثانية قام بها بري ظهر اول من امس بإيفاد الوزير علي حسن خليل الى بيت الوسط، ولكن ما جرى في وسط بيروت عندما هاجم مناصرون لحركة أمل وحزب الله ساحة الاعتصام، عزز قناعة الحريري بالاستقالة التي حصلت «على السخن» وعلى إيقاع شارع متأرجح بين التوتر والتفجر.
الاستقالة صارت واقعا.. ماذا بعدها؟! وأي مسار للأزمة التي يمكن أن تتدرج من أزمة تكليف الى أزمة تأليف، ومن أزمة حكومة الى أزمة حكم؟!
حققت الاستقالة نتيجة إيجابية فورية في «تنفيس واحتواء» غضب الشارع وإطلاق مسار تفكيك الوضع المقفل على الأرض، والبدء بفتح الطرقات وإزالة هذا «اللغم» الذي كان أصبح قابلا للانفجار، وكانت أحداث وسط بيروت بمثابة نموذج وعينة لما يمكن أن يحدث.
مع استقالة الحريري التي حققت أول وأهم أهداف الانتفاضة الشعبية، يفقد الشارع زخم التحرك، خصوصا في ظل وجود تباين داخل صفوفه بين من يعتبر أن الاستقالة حققت هدفا ثمينا للثورة وتعد خطوة كافية لفتح الطرقات مع الاستمرار في الضغوط والتظاهرات للإتيان بحكومة جديدة غير سياسية وبرئاسة الحريري لا مشكلة ولا مانع.. وبين من يعتبر أن الاستقالة لا تكفي، وأن الضغط يجب أن يتواصل لتحقيق أهداف أخرى وتحصيل تنازلات سياسية جديدة، خصوصا في مجال إجراء انتخابات مبكرة على أساس قانون جديد.. ولكن «الشارع» سيكون مشدودا من اليوم فصاعدا الى الأزمة المالية والنقدية الخانقة، مع دخول الوضع الاقتصادي في نفق الانهيار، وفي ظل فراغ حكومي وسقوط شبكة الأمان السياسية.
الاستقالة حققت نتيجة إيجابية فورية أخرى، وهي «انتعاش» شعبية الحريري في الشارع السني وخروجه من حال «انعدام الوزن السياسي» نتيجة عدم تطابق وعدم انسجام بين واقع سياسي يلزمه بالمساكنة مع حزب الله وحلفائه تحت سقف التسوية، وبين واقع شعبي يشد به للخروج من هذا التعايش الذي صار مكلفا ووضعه في دورة تنازلات لا تتوقف.. وكان الحريري واجه ضغوطا قوية من داخل تياره وجمهوره وطائفته للاستقالة، خصوصا بعد استقالة وزراء القوات اللبنانية وإعلان جنبلاط رغبته بالاستقالة ولكن مع الحريري وليس من دونه.. والآن يبدو الحريري وكأنه التحق بمعسكر المعارضة وصفوف الشعب، ولم يعد مطلوبا في إطار مقولة أو معادلة «كلن يعني كلن»، بقدر ما صار «بطلا» بفعل الاستقالة التي تفاعل معها مؤيدوه كخطوة شجاعة تعيد إنتاج صورة «سعد رفيق الحريري»، وتضخ دما جديدا في عروق رصيده الشعبي المتهاوي.. فيما يعتبرها خصومه «مغامرة سياسية وقفزة في المجهول».. وهناك من يراها «استقالة مفصلية» تشبه استقالة الرئيس رفيق الحريري في 2004 التي أنهاها بعبارة «أستودع الله لبنان الحبيب»، وكان لافتا ومعبرا أن يستعين الرئيس سعد الحريري بعبارة شهيرة كان يرددها والده الشهيد «ما حدا أكبر من بلدو»، وأن يختم إعلان استقالته بعبارة «الله يحمي لبنان».
لوهلة أولى ظن كثيرون أن الاستقالة منسقة بين الحريري وعون في إطار سيناريو احتواء الأزمة وإخراجها من الشارع، وتوافق مسبق على الحكومة الجديدة يحول دون إطالة أمد الفراغ الحكومي.. ولكن سرعان ما تبين أن الاستقالة لم تكن منسقة وإنما قوبلت بـ «دهشة وصدمة» من جانب باسيل ووزراء التيار، وأن الحريري أقدم على هذه الخطوة كي يجعل التغيير الحكومي أمرا واقعا ويعود الى رئاسة الحكومة بشروطه، وعلى أساس حسابات لديه تفيد بأنه يشكل حاجة وضرورة للعهد ولحزب الله وللاستقرار النقدي ولعلاقات لبنان العربية والدولية، وأن استقالته تعزز موقعه التفاوضي وتجعل من مسألة إقصاء باسيل أمرا متاحا في أي حكومة جديدة.
ولكن لدى خصوم الحريري حسابات ونظرة مختلفة لوضع ما بعد الاستقالة. فهذه الاستقالة التي تعيد المشهد السياسي الى ما كان عليه بين 8 و14 آذار أعادت تكتيل معسكر 8 آذار مع انضمام نبيه بري وسليمان فرنجية الى موقف حزب الله بالكامل.
وهذا الفريق أجرى طيلة ليل اول من امس اتصالات ومشاورات لتحديد خيارات المرحلة وكيفية التعاطي مع الوضع المستجد، بما في ذلك مسألة من يكون رئيس الحكومة المقبل، إذا ليس محسوما موضوع إعادة تسمية الحريري، وسيكون هناك تريث قبل إطلاق استشارات التكليف وبحث في بدائل ممكنة ومحتملة، خصوصا أن هذا الفريق لديه أكثرية النصف زائد واحد.. وبالتالي فإن تجاذبا حاصلا في «معركة التكليف» وثمة أسئلة مطروحة: هل عودة الحريري الى رئاسة الحكومة مسألة بديهية وخارج النقاش؟! وهل من بديل جاهز وقادر على تخطي الموقف السني العام الذي يعتبر الحريري ممثلا شرعيا ووحيدا للطائفة السنية في الحكم؟! وهذا ما أكده الدفق السني الى بيت الوسط بعد الاستقالة وعلى رأسه المفتي عبداللطيف دريان، كما أكده البيان السياسي الذي عاجل به رؤساء الحكومات السابقين (نجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة وتمام سلام) الجميع، وبعثوا من خلاله برسالة سريعة الى رئيس الجمهورية وحزب الله! وإذا كان ثمة بديل، هل يكون وسطيا مثل فؤاد المخزومي أم يكون من سنة 8 آذار وواحدا من أعضاء «اللقاء التشاوري»؟! وهل يحتمل الوضع خطوة استفزازية من هذا النوع وبهذا الحجم؟!
وبعد معركة التكليف، تنشب «معركة التأليف».. فإذا كان من السهل حسم اسم الرئيس المكلف وباتجاه سعد الحريري، فإنه من الصعب على الحريري تشكيل حكومة جديدة بشروطه، وسيصطدم مجددا بالجدار الذي اصطدم به قبل الاستقالة وبمسألة توزير الوزير جبران باسيل وضمنا تمثيل حزب الله في الحكومة.. وتوحي أجواء بعبدا وحارة حريك أن الحريري لا يمكنه أن يشكل حكومة بشروطه، لا بل أكثر من ذلك، إذا رغب في العودة فإنه يعود بشروط حزب الله الذي ارتفعت لديه درجة الشكوك والتوجس مما يجري، وما كان أبداه من خشية وشكوك صار أمرا مؤكدا ومثبتا بالوقائع ومسار تطور الأوضاع.
حزب الله بات يتعاطى مع الوضع من خلفية أن الحريري فجر قنبلة الاستقالة في وجه شركائه في الحكم، واستقال من دون تفاهمات وضمانات، ولم يأبه للنصائح التي أسديت إليه بتفاهم مسبق حول الحكومة الجديدة حتى لا يحصل فراغ وأزمة، لأن لا بدائل متاحة للحكومة الحالية، بالإضافة الى الصعوبات الكبيرة السياسية والأمنية والمالية.
في التقييم السياسي لحزب الله وحلفائه أن الحريري وضع نفسه في حالة «الشبهة السياسية» عندما أعطى باستقالته مكسبا سياسيا للفريق الداعي الى التظاهر والداعم له.
وبدا على تنسيق مع جهات داخلية ودولية تدفع باتجاه إضعاف العهد ومحاصرة حزب الله.
وهذا التغيير يصل الى حد توجيه اتهام للحريري بأنه يغطي «انقلابا سياسيا» ويتحمل مسؤولية تهديد ونسف التسوية الرئاسية، وبأنه منخرط بشكل أو بآخر في مخطط إسقاط حزب الله من المعادلة السياسية والحكومية، وهذا هو الجانب المخفي في الدعوة الى حكومة تكنوقراط.
أسئلة كثيرة تطرح اليوم: هل إعلان الرئيس الحريري الاستقالة من دون التنسيق مع شركائه وتأمين توافق على حكومة جديدة هو إعلان إنهاء التسوية الرئاسية في منتصف العهد، وعشية حلول الذكرى السنوية الثالثة لانتخاب العماد ميشال عون رئيسا؟! وهل يمكن لحزب الله أن يوافق بسهولة على استبعاد وإضعاف حليفه الأساسي والشريك المسيحي في التسوية؟! وهل الأيام القليلة المقبلة كفيلة بتحديد مسار المرحلة باتجاه إعادة ترميم وتعويم التسوية على قاعدة حكومة سياسية متفاهم عليها مع الحريري، أم باتجاه فراغ طويل الأمد مفتوح على كل الاحتمالات ومحفوف بمخاطر انهيارات مالية وأمنية؟!
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك