يمكن للفرقاء المتواجهين أن يحدّدوا المواضيع السياسية التي تتباين بشأنها المواقف، كمفهوم المقاومة وجدواها وتردّدات المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، أو مشاريع الاصلاح والسلطة، وتوزّع النسب في تشكيل الحكومات... وهذه أمور تتصاعد وتيرة أثارتها حينا، وحينا تخفّ بحسب المصلحة والتوقيت والظرف الداخلي والأقليمي.
وتطفو الى سطح الأعلام أجتهادات ومرافعات مفوّهة تدعم المواقف أو تسفّفها. وهذا حق يصونه الدستور والأعراف الديمقراطية من جهة حرية التفكير والتعبير والأختيار. ولا يسمح بالتالي بسدّ الأفق أمام ثوابت النظام الحر الذي يرعى هذه الحقوق. ويحدث أن تتقاطع الآراء على مستوى بعض المواضيع الخلافية، فنشهد خرقا يعمل على تقريب القواسم المشتركة، ما يؤجّل تأجيج المواجهة المسنّنة والمحتّمة. هذا الأمر لا يمكن توصيفه على أنّه لبناني الطابع فقط، أي أنّه حكر على لبنان، بل هو يحصل في جميع الدول التي تنعم بالنظام الديمقراطي، أرقى الأنظمة السياسية حتى الساعة.
غير أنّ الولوج الى صميم وجود الوطن، أي الكيان، وطرح الموضوع في التداول والتجاذب لهو الأمر الأشدّ حساسية لا بل خطرا. فالكيان هو مشروع الوجود، أي جذريّة الحياة في الزمان والمكان، يترجمها الناس في وجدانهم حالة علائقية تتحوّل الى تكامل عضوي بين الأنسان والأرض، أو ترابط جوهري متفاعل أبدا. هذه الصورة "الوجودية" ليست صناعيةبل أيمانية بأمتياز، تنضح منها مبادئ وقيم تشهر سرّ التداخل أو الشراكة في الأمس والغد. انّ التفسير البسيط لهذه المعادلة المعقّدة يكمن تحديدا في كلمة "مصير". من هنا ينقسم اللبنانيّون الى فريق يتبنّى النزعة التدميرية للكيان، كونه لا يمثّل حيثية مصيرية له، وفريق آخر يعيش حالة اندماجية مع كيانه فيشكّلا نموذجا شراكيا مصيريا يصل معهما الى حدّ التماهي المطلق. لذلك ينبغي ألاّ نسخّف الصراع المتمادي منذ زمن، والذي يعمل الفريق "اللاّكياني" على توصيفه بالسياسي أو الأستراتيجي الأقليمي أو النظامي... ساعيا الى تقليص مساحة الأنتباه الى حقيقة هذا الصراع وطبيعته.
انّ تعريف لبنان على أنّه وطن المصادفة، هو المؤامرة ذات الخطورة القصوى. ويلتفّ حول هذا التحديد المستهجن جزء من الخارج وآخر من الداخل، أو يقوم الخارج بابتداع هذا الطرح، فيهلّل له بعض من في الداخل على غير دراية أو قصدا. فما الفارق بين "اللبننة" و"السورنة" و"التفريس"... أذا لم تكن الأرض امتدادا لذات المقيم فوقها، لتصبح بالتالي محيط الكيان الوجودي له الى ألابد. انّ مستثمري الأرض لأهداف مشبوهة لا تمتّ للكيان بصلة، يعملون على تفتيق تلك الصلة بين الأنسان والكيان، وقد نجحوا في تأطير مجموعة ليست بالقليلة من خلال برمجة مستوردة، وغرّروا بمجموعة أخرى من خلال وعود زهرية وهمية. وهؤلاء متّهمون بأنّ المؤونة الكيانية لديهم باتت شحيحة، بحيث سلّموا للدخلاء الحذقين أمرهم، وتبنّوا خطابا بعيدا عن رابطهم الحيوي بالأرض، فبتروا صاغرين تلك العلاقة القدسية التي كونت أمّة.
انّ الكيان المتمكّن هو الحالة الممانعة الأقوى لأيّ تخطيط مغرض، وهو الجدار الشائك الذي يصدّ أيّ تمرير مؤامراتي. من هنا، يجب التركيز المستمرّ والتذكير الدائم بأنّ لبّ الصراع يتمحور حول الكيان. فالمطلوب أذا صيانته بترسيخ ثقافة كيانية تقولب المفاهيم، وإلحاق صفة القداسة بالكيان، ليعلم من يريد المساس به بأنّه سيرشق بحرم وطني والهي، كونه ارتكب خطيئة أصليّة.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك