كتب أحمد الزعبي في "اللواء":
في 28 أيلول الفائت، أطلقَ عددٌ من المفكرات والمفكرين المسيحيين العرب، من لبنان وفلسطين والأردن ومصر وسوريا والعراق، وثيقة مرجعيّة حملت اسم «نختار الحياة»، تناولت أوضاع المسيحيّين في المنطقة من الناحية اللاهوتيّة والجيوسياسيّة والفكريّة والمجتمعيّة،ورسمت خيارات متجدّدة لمقاربة المستقبل.
وبالرغم من إسباغ واضعي الوثيقة عنواناً لاهوتياً، هو «نختار الحياة»، مقتبساً من الكتاب المقدس (تثنية: 30/19 ب)، في إشارة إلى أن طاقة الحياة أقوى وأبقى من ثقافة الموت، إلا أن الدلالات السياسية والتدبيريّة والمستقبلية لهذا المنحى بدت واضحة جداً، فالمسيحيون، وهذه نخبة منهم، يؤكدون أن التاريخ والوقائع والحقائق أقوى من دعاوى التخويف والتذويب والاستمالة والجمود أو التلذّذ بالخضوع لأنظمة الاستبداد تحت أي ذريعة، ولا تعكس عمق انتمائهم وشراكتهم في الهموم والتحديات وصناعة المستقبل لهذه المنطقة بكل مكوناتها.
والواقع أن الإصلاح، دينياً كان أم سياسياً، صعب جداً في عالمنا العربي، ولا يتشابه أو يتقاطع، لأسباب عديدة ومعقدة، مع التجربة الأوروبية التي أولته أهمية فائقة منطلقة من الحيّز الديني. لطالما كانت بعضُ دعاوى الإصلاح تَتلبّس لَبوس الدين لحماية أنظمة استبداديّة وحكّام نرجسيون تغوّلوا على الدولة والمجال العام بما في ذلك تطويع المؤسسات الدينية. لكن إعلان التفاؤل بحتميّة الإصلاح وقرب تحقّقه، كما فعلت الوثيقة وواضعوها، بالتوازي بين اللاهوتي والفكري والاجتماعي والسياسي، أمر يستحق التوقف عنده. هو بمثابة إعادة اكتشاف الذات ببعدٍ إحيائي لإنجاز التحولات التي لم تستطعها لا النهضة العربية المتطلعة حينها إلى مجاراة حَداثة العالم، لكنّ، بحسب الوثيقة، «يمكن البناء عليها، لكونها تشتمل على بذور مشروع المواطنة»، ولا ما سمّي بـ ثورات الربيع العربي التي «لم تسفر حتّى اليوم عن قيام أنظمة سياسيّة ديمقراطيّة». لكنّها «طالبت بإعادة مفهوم المواطنة إلى قلب الممارسة السياسيّة» بشكل كامل وناجز، خصوصاً وأن أمزجة الجيل الراهن بكل تلاوينه تبدو توّاقة لذلك. هكذا يكون الإصلاح، الديني والسياسي، ضرورة إزاء الانهيارات والتطرّفات والانعزاليات وأنظمة القمع؛ فأزماتنا في أبعاد كثيرة منها هي أخلاقيّة وقيميّة وفكرية وثقافية، إلى كونها أزمات حريات وحوكمة وتأزّم سياسي واقتصادي، وهكذا أيضاً تبدو الوثيقة أشبه بـ «ثورة أفكار» كما يسميها ديكارت، أو مدخلاً من مداخل «الاعتراف والتذكّر الذي يسبق المسامحة كشرط لصناعة المستقبل» بحسب ريكور.
تدعو الوثيقة إلى عدم الالتصاق بالأنظمة القمعيّة أكانت عقائديّةً علمانيّةً أم إيديولوجيّةً ثيوقراطيّةً أم إقطاعيّةً عائليّة، وإلى الانحياز للحريّات والعدل وحقوق الإنسان والديموقراطيّة والتداول السلميّ للسلطة
لا للحمايات والانعزاليات
تنطلق الوثيقة التي أعدّها لاهوتيون مع خبراء ومتخصصون في مجالات عدّة من تشريح عميق لأوضاع المسيحيين، ماضياً وحاضراً، وتتوقف عند التحديات التي تواجههم بوصفهم جزءاً لا يتجزّأ من المجتمعات التي ينتمون إليها، وتخلص إلى استعراض خيارات يرى واضعو النصّ، المكوّن من مقدمة وثلاثة فصول، أنّه يتعيّن على المسيحيّين عموماً، وعلى الكنائس خصوصاً، تبنّيها، وتدعوهم إلى اعتماد التجدّد في السياسة والفكر والاجتماع، استشرافاً للمستقبل. إن مجرّد جمع نخبٍ من ست دول عربية لينظموا فريقاً متآلفاً، بالرغم من الخصوصيات المحلية والأزمات المتباينة حيناً والمشتركة أحياناً ومن ثمّ التوافق على مشتركات المستقبل، هو إنجاز بحدّ ذاته.
وبالنظر إلى تجارب التاريخ الطريّ والبعيد، وتعقيدات الراهن، يدرك هؤلاء سلفاً صعوبة المسلك الذي خاضوه، لأسباب عديدة وشائكة، لكنهم ببساطة قرروا «الخوض في ما قد يرى البعض أنّه لا تسوغ مناقشته في الفضاء العامّ، لأنّ تطلّعنا ينبُعُ من إيماننا بما قاله المسيح «تعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم»، معتمدين منهجيّة اللاهوت السياقيّ (وهو مقاربة تأخذ التطوّراتِ الاجتماعيّةَ والاقتصاديّةَ والسياسيّةَ على محمل الجدّ، وتجعلها منطلقًا للتفكير في ما يريده الله منّا، ويقابله عند المسلمين فقه الواقع ومقاصد الشريعة). يتوقفون «أمام إعادة تشكُّل حاضر هذه المنطقة، فالقديم قاد إلى الانفجار.. ولكنّ الجديد لم يتبلور بعد»، وبالتالي فـ «إنّ مسيحيّي الشرق الأوسط مطالبون مع إخوتهم المسلمين، ومع شركائهم الآخرين، بالذهاب إلى عمق بناء الدولة المدنيّة حيث تطبَّق المواطنة من غير تمييز أو استثناء»، التحدّي إذن: العالم الجديد الذي لم يتبلور بعد، المواطنة والدولة المدنيّة، العلاقة مع الأديان الكبرى، أوضاع المسيحيّين وأزمة الدور لديهم، وشؤون الكنائس. هنا، ثمّة دعوةٌ إلى ترسيخِ ثقافة الأخوّة الإنسانيّة وتجديد الخطاب اللاهوتيّ، الذي يتّصل بتنمية ثقافة النقد وخلق فرص الإبداع لجيل الشباب، بما ينسجم مع مواهبهم العظيمة، التي كثيرًا ما تبقى «غيرَ مفعَّلة في الحياة الكنسيّة»، بحسب أحد واضعي الوثيقة.
فوق ذلك، تتضمن الوثيقة مطالبات جريئة للكنيسة تتعلق بقضايا المرأة وقوانين الأحوال الشخصية، لتخلص في فصلها الأخير، وهو الأهم، إلى اعتماد لغة الحثّ، لا التوصيات التقليدية، لتبني خيارات وسياسيات مستقبليّة، فتحرّض المسيحيّين على عدم الالتصاق بالأنظمة القمعيّة «سواء أكانت عقائديّةً علمانيّةً أم إيديولوجيّةً ثيوقراطيّةً أم إقطاعيّةً عائليّة». وتدعوهم للانحياز «إلى قضايا الحرّيّات والعدل وحقوق الإنسان، والديموقراطيّة والتداول السلميّ المنتظِم للسلطة»، وترى في هذه الخيارات «تعبيرًا رصينًا عن التزام المسيحيّين المعيّةَ الإنسانيّة وخيارَ الحياة الكريمة لكلّ إنسان، ورفضًا لثقافة الموت المستشرية. فالحضور المسيحيّ لا بدّ له من أن يقوم على خدمة كلّ إنسان، وعلى المحبّة المتفانية، وعلى المغفرة الصادقة طاعةً لمشيئة الله، وذلك في سبيل تحويل المجتمع إلى مجتمع أكثرَ عدالةً وإنسانيّة».
من التحيّة إلى ردّها
الوثيقة، إذن، خرقٌ مفاهيميّ في الديني والجيوسياسيّ للفضاء العام المتشابك في الشرق الأوسط. لكنّ هذا الخرق، وأغلبُ الظنّ أنه سيُعلّق على مشجب الإدانة والمعاداة، يفتحُ المجال واسعاً للبحث في إشكالية الإنسان - المواطن، أكثر منه الإنسان الباحث عن هويته. المواطنة هنا في دولة مدنية ترسم حدوداً ليس بين السلطة الدينية والسلطة السياسية فحسب، بل حدوداً ما بين تقاطع المصالح الدينية مع المصالح السلطوية، وهذا مأزق يجبُ تداركه قبل أن تعود المنطقة إلى عصور الظلام، من هنا يأمل واضعو الوثيقة بأن يصبح هذا النصّ المعمّق منطلقاً لحوار جدّيّ وصريح يتناول شؤون المسيحيّين في الشرق الأوسط، وشجون العلاقة التي لا تنفصم عراها بين هؤلاء والمجتمعات التي يعيشون فيها.
أمامنا، والحال هذه، تحديات مشتركة، يجدر بنا، مسلمين ومسيحيين، إعادة الاعتبار لها، فالعنف باسم الدين، واغتيال المواطنة باسم حقوق الطوائف، والخضوع للاستبداد باسم توهّم السيطرة، وذبح الأوطان باسم الحمايات وحلف الأقليات، وقتل التنمية باسم الهواجس والمخاوف، وخنق المستقبل والأمل ومشاركة العالم في صنع الغد باسم الأحقاد والانحباس بالماضي، سواء أُلبسِت لَبوساً دينياً أو إثنيّاً أو قوميّاً أو عرقيّاً، لم يورث إلا الدمار والتأخّر والتهجير والانتقام.
هنا، مع هذه الوثيقة المتفرّدة في الإطار المسيحي العربي، ومع جهود إسلاميّة مهمّة سبقتها وأخرى يجب أن تتلوها، مساحةٌ للالتقاء والتعارف والتلاقي وتجديد العزيمة، فالعودة لتعاليم الأديان، أو الإصلاح فيها، هي للنجاة من التشدّد والانقسام وطغيان الصراع وليس لتغذية كل ذلك، والتطوير في العمل العام هي لرفعة الإنسان ورخائه لا لفرزه واحتقاره. نحن نتشارك الجغرافيا والتاريخ ذاته، ونتقاسم الحاضر والمستقبل نفسه، بطموحاته وتحدياته، في عالم يسوده التأزّم والمجاعات والنزعات المادية..
«نختار الحياة» تحيّةٌ، تتطلبُ الردّ بمثلها، بل وأحسن، من مكونات أخرى، وتتطلب ملاقاة من حَراكات الشارع اللبناني والعربي، المفتقد لمواكبةِ حَراكٍ فكري عميق يلاقيه ويرسم له الخيارات والآفاق من دون وصاية أو تهويل، لكنه الواعي أكثر وأكثر بمركزية المواطَنة الكاملة، حقوقاً وواجبات، في قضيته الوطنية بعيداً عن منطق الاختزال والتعليب والتفويت.. فقد آن أوان أن نختار الحياة.. لكي نحيا.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك