في الذكرى الـ 48 لاغتيال المعلم كمال جنبلاط، يعود التاريخ ليُذكّر اللبنانيين بمحطات نضالية رسمت ملامح الحركة الوطنية، ووضعت الحزب التقدمي الاشتراكي في قلب المعادلة السياسية. لكن الذكرى هذا العام لها نكهة خاصة بعد مخاض الصبر والصمود قبل الاحتفاء بالانتصار. انتصارٌ لا يمكن أن يقتصر على مجرد استرجاع الماضي ومآسيه، كما المحطات المشرقة من مصالحة الجبل إلى قيادة انتفاضة الاستقلال في 14 آذار وصولاً إلى سقوط طاغية الشام ونظامه في دمشق، بل يجب أن يشكّل لحظة تأمل في مسار الحزب ودوره في تشكيل المستقبل مع الأحرار... كلِّ الأحرار.
منذ لحظة الاغتيال في 16 آذار 1977، حمل وليد جنبلاط الشعلة في أصعب المراحل. قاد الحزب في أتون الحرب الأهلية، ثم في مرحلة إعادة الإعمار، وفي مواجهة الوصاية السورية. لاقى بطريرك الاستقلال مار نصرالله بطرس صفير بجرأة الاعتراف بالمآسي التي حلّت بأهل الجبل، فكانت المصالحة التاريخية في آب 2001. أكمل التحدي، في خضم التحولات التي أعقبت اغتيال الرئيس رفيق الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان عام 2005. ناصر ثورة الأحرار في سوريا، وواكب محلياً هواجس جيل ما بعد الحرب في "فورته" بعد 17 تشرين. كل محطة من هذه المحطات كانت اختباراً لمرونة "التقدمي الاشتراكي" وقدرته على التأقلم مع المتغيرات.
اليوم، بعد سقوط النظام الذي اغتال كمال جنبلاط، واعتقال أبرز المتورطين في الجريمة، يجد الحزب نفسه أمام منعطف تاريخي. لقد انتهت مرحلة كان فيها الماضي ثقلاً، وبدأت مرحلة جديدة تتطلب التحرر من الخطاب التقليدي واستمداد شرعية من المعلّم، الضحية والشهيد، واستنباط رؤية تتماشى مع تطلعات الجيل الشاب الذي لم يعايش الحرب، لكنه يعيش تداعيات أزماتها المتراكمة.
وليد جنبلاط، الذي اشتهر بحسّه الواقعي وقدرته على قراءة التحولات، قد يكون اليوم أمام واحدة من أهم قراراته السياسية: طي صفحة الماضي واستمداد مشروعية سنوية من ذكرى أليمة لرسم معالم المرحلة المقبلة. لا يعني الإبقاء على المناسبة في إطارها العائلي، في حال تجرأ، نكراناً للتضحيات؛ بل هو اعتراف بأن الوفاء الحقيقي لدماء الشهداء يكون ببناء وطن يستحقونه. وهنا يأتي دور رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي الحالي، النائب الشاب تيمور جنبلاط، ليُجسّد هذه الرؤية.
تيمور جنبلاط يمثل جيلاً جديداً من القادة. خطابه الهادئ، وابتعاده عن الاصطفافات الحادة، يعكسان رغبة في خلق سياسة أكثر انسجاماً مع طموحات الشباب اللبناني الذي يبحث عن فرص للحياة الكريمة في وطنه. ومع تصاعد الأصوات الداعية لإعادة تكوين السلطة في لبنان، ورسم حدود سياسية بين المكونات الوطنية، يمكن للحزب الاشتراكي أن يكون في طليعة القوى التي تدافع عن فكرة لبنان وجوهر وجوده، ويدفع نحو إصلاح شاملٍ يستند إلى مبادئ الحرية، والعدالة، والشفافية، والمساواة، وبناء دولة المؤسسات الوطنية لا الطائفية.
لا يمكن لذكرى 16 آذار هذا العام أن تقتصر على الانتصار مع جنبلاط كرمز للمقاومة، بعد صبرٍ وصمود. بل يجب أن تكون مناسبة للانطلاق نحو المستقبل بخطابٍ يتجاوز الهواجس الطائفية، ويُؤسس لإعادة بناء الثقة بين جميع المكونات الوطنية، ويمهّد الطريق أيضاً لجميع الأحزاب التي انخرطت في الحرب، ودفعت أثماناً كبيرة بإغتيال رموزها في السلم، أن تعمد بدورها إلى طيّ صفحة الماضي، واستمداد شرعية ومشروعية سياسية اليوم من ماضٍ مضى، ومن "المتاجرة" بذكرى الشهداء، والقول ما الذي تريده للمستقبل، وملاقات رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، والحكومة القاضي نواف سلام، ودولة الرئيس نبيه بري في إنجاز الإصلاحات المطلوبة لتطبيق الدستور أولاً.
إن القرار ليس سهلاً. فالتحرر من الماضي يحتاج إلى شجاعة استثنائية. لكنه أيضاً فرصة لقيادة التحول في الحياة السياسية اللبنانية. ومن أجرأ من وليد جنبلاط ليُقدِم بشجاعته المعهودة والسبّاقة على هذه الخطوة، ويُعلن أن الحزب طوى صفحة الماضي، منتصراً، وأنه سيُركّز من اليوم، وبصفاء ذهني لا مثيل له، مع تيمور والأوفياء لمكانتهم وإرثهم العائلي، على المستقبل أكثر من الماضي. ويُحرِج القوى الأخرى بطبيعة الحال، ويدفعها لمراجعة حساباتها. ويُكمل ما بدأه كمال جنبلاط: مشروع بناء وطن حرّ، سيّد، وعادل.
بعد 48 عاماً على اغتيال المعلّم، اللقب الأحب إلى محبي الشهيد كمال جنبلاط، يمكن للحزب التقدمي الاشتراكي أن يختار بين أن يكون حارساً للذاكرة، أو أن يكون صانعاً للمستقبل. والتاريخ يُعلّمنا أن الشعوب تتذكر من قادها إلى الأمام، لا من بقي أسيراً للماضي.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك