كتبت زيزي إسطفان في "نداء الوطن":
"وعادت حليمة لعادتها القديمة". عاد المواطن اللبناني ليعلق ساعات في زحمة السير اليومية. استراحة قسرية شهدتها شوارع لبنان وطرقاته في الحرب الأخيرة وما سبقها من جائحة وثورة وانهيار، لتعود وتتفجر اليوم في وجه المواطنين أزمة سير خانقة على الأوتوسترادات الساحلية كما الطرقات الداخلية والزواريب... شلالات من السيارات تتدفق على طرقات لم تعرف "دسامة" الزفت منذ أعوام، اعتمادات صيانة غائبة، إشارات ضوئية متوقفة ومركبات تسير "على ما يقدر الله". هذا غيض من فيض كارثة المرور في لبنان.
هل تعرفون أن لبنان كان في العام 2010 يحتلّ المركز الثاني بعد دبي في أهمية مشروع غرفة التحكم المروري؟ مشروع رائد وضع ضمن مشروع النقل الحضري لمدينة بيروت ضمّ 200 إشارة سير ضمن بيروت الكبرى و60 كاميرا مراقبة و1000 عداد وقوف. وكانت الغرفة قادرة على ضبط السير من ضبية شمالاً، إلى خلدة جنوباً، وشرقاً نحو منطقة الجمهور في إدارة مشتركة بين الشركة المشغلة وقوى الأمن الداخلي وهيئة إدارة السير.
بعد العام 2018 غاب التمويل عن غرفة التحكم وانسحبت الشركة المشغلة وبقيت الغرفة في عهدة قوى الأمن وحدها، وفق ما يقول الأستاذ المحاضر في الجامعة اللبنانية وجامعة الروح القدس الكسليك والمستشار في جمعية إليازا زاهر مسعد، ومن القلائل المختصين بهندسة المرور والسلامة المرورية. وأتى انفجار المرفأ ليلقي بتبعاته الكارثية على الغرفة الواقعة قريباً منه وكافة تجهيزاتها.
تقاذف المسؤوليات
يقول مسعد: "اليوم، وفي غياب الدور الأساسي لغرفة التحكم المروري صار وضع السير "فالتاً ومتفلتاً". استشرت الفوضى وازدادت الزحمة بسبب عدم احترام القوانين من جهة المواطن، وعدم تطبيقها الصارم من قبل الدولة. وجاء غياب الصيانة عن الطرقات وأزمة الوقوف العشوائي وغياب المواقف المنظمة، إضافة إلى عدم القدرة على صيانة السيارات والمركبات، لتفاقم جميعها من الأزمة في غياب خطة واضحة للنقل البري. محاولات عدة جرت لوضع خطط بقيت إما غير متكاملة أو لم تنفذ، وفق ما يؤكده مسعد، بسبب نقص التمويل. وتبقى العقدة الرئيسية عدم وجود نقل عام منظم وفعال، الأمر الذي يجعل السيارات تستهلك الطرقات التي تزداد أحوالها سوءاً مع غياب الصيانة".
ماذا عن الإشارات الضوئية التي تساعد في تنظيم حركة المرور؟ يجيب مسعد: "غابت عن طرقات لبنان منذ خمسة أعوام وتركتها حلبة مصارعة الغلبة فيها للأقوى، وجعلت التقاطعات فريسة الفوضى والحوادث القاتلة. مبادرات فردية وأهلية غير حكومية أعادت إضاءة إشارات السير في الكثير من شوارع العاصمة وتقاطعاتها الرئيسية. لكن للأسف بقيت هذه الإشارات، على أهميتها، غير مرتبطة ببعضها البعض وبنظام ذكي يساعد على تنظيم وجدولة السير كما كانت سابقاً أيام غرفة التحكم المروري، وبقي توقيتها ذاته على ما كان عليه في العام 2018 رغم تبدل تدفق السير في محيطها".
بمبادرة فردية أيضاً،"تمت إضاءة بعض الأوتوسترادات الرئيسية (منها مبادرة MTV)، في حين يبقى غياب التيار الكهربائي وانتفاء إضاءة الطرقات ليلاً أبرز المشاكل في وجه السلامة المرورية. وما بين وزارة الطاقة والأشغال والداخلية تضيع المسؤوليات، كما تضيع أيضاً ما بين بلدية بيروت ووزارة الأشغال والنقل وهيئة إدارة السير. فالكل يتقاذف المسؤوليات في حين أن السير ينبغي ان يكون- وفق مهندس السير زاهر مسعد- منظومة ذكية متكاملة تحت إدارة واحدة".
وضع السير المتأزم في لبنان لا يرتبط فقط بحالة الطرقات كما نظن، نحن كمواطنين، حين نعبر طريقاً ملأى بالحفر، إذ حتى لو عبّدت كل الطرقات الرئيسية فالمشكلة ستبقى قائمة. فمن يحل أزمة فوضى الوقوف واستغلال البعض للأرصفة كمواقف سيارات بعد غياب منظومة البارك ميتر، التي ساهمت في تنظيم وقوف السيارات في بيروت؟ من يحل مشكلة المحال على جوانب الأوتوسترادات واستخدامها حرم الطريق العام لدخول وخروج السيارات إليها، في حين أن معظم دول العالم تمنع وجود محال على جوانب الأوتوسترادات السريعة؟ من ينظم فوضى الفانات وتوقفها المتكرر؟ من يؤمن التيار الكهربائي لإضاءة الطرقات ليلاً؟
إدارة السير قطاع كبير لا يمكن لقوى الأمن الداخلي وحدها توليه علماً أنها تحاول ذلك، وكان مؤذياً منظر أحدهم وهو يدهس شرطي مرور في أحد شوارع العاصمة، وأظهر هشاشة علاقة المواطن بشرطي السير وعدم احترامه لدوره.
أما هيئة إدارة السير من جهتها فموكل إليها مهمات كثيرة من تسجيل المركبات ومنح رخص القيادة وغيرها الكثير بحيث لم تعد إدارة السير من أولوياتها. "الخطوة الأولى لتنظيم السير إذاً- بحسب مسعد- تكون في إعادة تفعيل دور غرفة التحكم المروري التي كان لها وجود دائم على الطرقات من خلال قوى الأمن والخبراء الذين كانوا يحددون أولويات الإجراءات التي يتوجب القيام بها لتنظيم وتسهيل السير، واعتماد طريقة هندسية لإدارة القطاع تحدد أولويات التأهيل والصيانة على الطرقات وترسم الخطط التي تسهل حركة المرور وتراجعها باستمرار لتواكب تطور السير، وكل هذا ضمن شروط هندسية علمية لا محسوبيات و"زفت انتخابي". ويبقى النقل المشترك الحل الوحيد لإبعاد شبح تحول البلد بأكمله إلى موقف سيارات عملاق... ولا بد أن توجه إمكانيات الدولة اليوم، عبر ما تتلقاه من قروض، نحوه، وإلا بقينا ندور في الدوامة نفسها لا سيما وأن الدولة لم يعد لديها إمكانيات لبناء الجسور والأنفاق وتوسيع الطرقات".
اليوم يلاحظ العابرون على الطرقات بعض مشاريع الصيانة التي يديرها مجلس الإنماء و الإعمار بقرض من البنك الدولي وبتعاون مع وزارة الأشغال مثل تصليح فواصل الجسور أو تأهيل بعض الطرقات وما شهده جسر انطلياس من أعمال دليل على ذلك، لكن "هذا التأهيل لم يشمل إلا حوالى 10 في المئة من الطرقات المصنفة"، وفق ما يقول المهندس المختص زاهر مسعد، "فيما معظم الطرق بقي بلا صيانة. وإذا استمر الوضع هكذا نحن سائرون نحو الأسوأ في السير والنقل والسلامة المرورية".
ومنذ يومين أعلن وزير الأشغال علي حمية استئناف أعمال الصيانة والترميم في مختلف الطرقات التي توقفت بفعل الحرب، ولكن هل يكفي ترقيع الجور لتحسين حالة الطرقات في لبنان التي تعيش "بعلاً" منذ سنوات في غياب خطة متكاملة؟
شختورة: النساء لا يحترمنَ شرطي السير
تصنيف الطرقات في لبنان يقسمها ما بين طرقات رئيسية وثانوية تقع ضمن مسؤولية وزارة الأشغال والنقل، وطرقات محلية وفرعية تقع ضمن مسؤولية البلديات. فإذا كانت الوزارة مقصرة أين دور البلديات؟
"الريّس" أنطوان شختورة رئيس بلدية الدكوانة يرفع الصوت عالياً تجاه حالة الطرقات في نطاقه. "فساحة الدكوانة كابوس سير بالنسبة لكل العابرين الذين لا يتوانون عن شتم البلدية وتقصيرها، غير مدركين أن الساحة تابعة لوزارة الأشغال وهي "مضروبة " بتخطيط قديم من مجلس الإنماء والإعمار ضمن مشروع النقل الحضري في بيروت. البلدية هنا تقف عاجزة غير قادرة على إحداث التغيير المطلوب الذي يريح حركة السير ويوفر العناء على أرتال السيارات العابرة فيها. سابقاً كان هناك اعتمادات بتمويل أجنبي للاستملاكات لتحويل الساحة إلى رون بوان منظم، لكن كالعادة في لبنان هناك من أوقف الاعتمادات وحولها إلى مكان آخر ولم ينفذ المشروع".
الطرقات الرئيسية التي تمر في النطاق البلدي تابعة لوزارة الأشغال، ودور البلدية مجرد إبداء الرأي في أي مشروع تقرره بشأنها الوزارة أو مجلس الإنماء والإعمار، وهو ليس رأياً ملزماً. حتى أن الوزارة تمنع أحياناً البلديات من أي تدخل لصيانة أو تحسين الطرقات الرئيسية. ومنذ بدء الانهيار المالي صدر من وزارة الداخلية قرار يطلب من البلديات الاكتفاء بالصيانة الضرورية ولا يزال ساري المفعول حتى اليوم، وإن مع بعض الحلحلة.
ولكن يمكن للبلديات أو لاتحادات البلديات تفعيل دائرة السير فيها، لتعمل على دراسة وضع حركة المرور وتحديد اتجاهات السير في الطرقات المحلية والقيام بالإجراءات اللازمة لتحسينه.
لكن المشكلة الحقيقية تكمن في عملية حصول البلديات على الأموال الضرورية للقيام بأعمال الصيانة والتزفيت. فديوان المحاسبة كان يمنع الحصول على أكثر من 500 مليون ليرة دفعة واحدة وهو مبلغ غير كاف مطلقاً لإجراء عملية تزفيت مثلاً للطرقات.
"هذا ما أجبرني، يقول شختورة، على أن أجري الأعمال المطلوبة بالدين لأسدد شيئاً فشيئاً للمتعهد بعد الحصول على الأموال. ومؤخراً تمت زيادة المبلغ إلى مليار و500 مليون يمكن سحبها دفعة واحدة دون العودة إلى ديوان المحاسبة، على أن يجري الديوان مراقبة لاحقة. كانت أيدينا مقيّدة وبحجة مكافحة الفساد تشددوا كثيراً في الرقابة على البلديات، ما منعها من القيام بالأعمال المطلوبة منها. أُعطونا لامركزية إدارية ومالية وخذوا من البلديات ما يدهش العالم".
لكن من يصر على العمل يمكنه ذلك، يقول شختورة، و"ثمة ظروف خاصة ملزمة تدفع بالبلدية للتصرف حفاظاً على السلامة العامة. فعند وجود تقاطع كبير وخطر ولا إشارة سير تعمل عليه، من واجب البلدية وضع شرطي سير لتنظيم حركة المرور والحفاظ على السلامة العامة حتى لو كان الطريق تابعاً لوزارة الأشغال". وهنا يعترف "أن عناصر شرطة السير في البلدية مثل سائر المواطنين، بعضهم مؤدّب خلوق وبعضهم الآخر يحتاج إلى تربية أو طرد، لكن المشكلة ليست في هؤلاء فقط بل في الناس الذين يتعالون على الشرطي ويحقّرونه ولا يحترمون توجيهاته، وخصوصاً النساء"!
آخر موجة زفت كانت في العام 2014 حين تم تزفيت منطقة مار روكز على أيام الوزير زعيتر، وبسعي من نائب المنطقة ابراهيم كنعان ومن يومها يقول شختورة: "ما عدنا شفنا الزفت"، و"كل وزير تهمه منطقته فقط".
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك