كتب شارل جبور في "نداء الوطن":
قد يقول البعض إن التدخُّل هو تدخُّل، ومحاولة تجميله من خلال التمييز بين التدخُّل الإيجابيّ والسلبي لا تصحّ، فإما الشعب اللبناني غير قاصر وقادر على حكم نفسه بنفسه، وإما هو عاجز وبحاجة دائماً لوصاية.
عدا عن أن المقاربة أعلاه خاطئة وغير واقعية وطوباوية وتتفرّع من الشعار الكارثي "كلُّن يعني كلُّن"، فإنها تخدم، وعن غير قصد ربما، المشاريع الإقليمية التوسعية التي تستخدم لبنان كساحة من ساحاتها، فلا يجوز بأي شكل من الأشكال وضع التدخُّل الخارجي الإيجابي بالمنزلة نفسها للتدخُّل الخارجي السلبي، أي كمن يضع الخير والشرّ في سلّة واحدة، وبالتالي المقارنة لا تجوز لثلاثة أسباب أساسية؟
السبب الأول، عدم تطبيق الدستور:
هل كان من حاجة للتدخُّل الخارجي بانتخاب رئيس للجمهورية لو تم الالتزام بما ينصّ عليه الدستور لجهة أن "مجلس النواب يجتمع لانتخاب رئيس جديد قبل انتهاء ولايته بشهر على الأقل أو شهرين على الأكثر"؟ بالتأكيد كلا، هذا النص وضع للتنفيذ لا للفرجة و"طق الحنك"، وأي مناورات انتخابية تعطيلية وغيرها، يفترض أن تحصل ضمن هذه الفترة التي لا يجوز بأي شكل من الأشكال تجاوزها، وإذا كان من تعديل مطلوب على الفقرة المتعلقة بالانتخابات الرئاسية، فتكمن بتحويل الإنتخاب ضمن الشهرين إلى إلزامي مع عقوبات بفقدان النواب الذي يفقدون النصاب نيابتهم.
فلو التزم رئيس مجلس النواب نبيه بري بالقاعدة التي وضعها للجلسة الانتخابية الأخيرة التي حملت رقم 13، لجهة أن تكون جلسة مفتوحة بدورات متتالية حتى خروج الدخان الأبيض على غرار جلسات انتخاب الباباوات، لكان تمّ انتخاب الرئيس في الجلسة رقم 1 وضمن المهلة الدستورية.
لا يمكن الكلام عن تدخُّل خارجي، لو كانت الممانعة التزمت بتطبيق الدستور وانتخبت رئيس الجمهورية ضمن المهلة الدستورية، ولكن انقلابها المتمادي على هذا الدستور وتمسّكها بمرشحها العاجزة عن انتخابه استجرّ التدخلُّ الخارجي تطبيقاً للدستور.
السبب الثاني، المراوحة الطويلة في الشغور:
يفترض التذكير بأن سبب وجود "اللجنة الخماسية"، هو الشغور الرئاسي ولمساعدة القوى السياسية، في التوصل لانتخاب رئيس جديد، وقد استخدمت كل أساليب "الجزرة" الممكنة، وقامت بجولات وصولات وأصدرت البيانات وظهرت حركتها أمام الرأي العام بأنها بلا بركة، لا بل أساءت إلى صورتها بأن إيران في لبنان أقوى منها مجتمعة.
فهل التدخُّل الخارجي الإيجابي لانتخاب العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية حصل قبل الشغور أم بعد مرحلة طويلة من هذا الشغور؟ الإجابة معروفة، ولكن الأهم هل هذا التدخُّل جاء ليذكّي مرشّح مواجهة، أم ضمن الخيار الثالث الذي كان مرفوضاً من الممانعة بسبب إصرارها على الإتيان بمرشّح من صفوفها؟
التدخُّل يكون غالباً لترجيح كفة فريق على آخر، وهذا ما كان عليه الوضع في لبنان مع تدخُّل الأسد ومن ثمّ الخامنئي، ولم تحاول الرياض ولا واشنطن الاستفادة من التبدُّل في ميزان القوى الاستراتيجي في المنطقة ولبنان على حساب الممانعة لتذكية مرشّح من الفريق الخصم لهذه الممانعة، إنما أصرتا على انتخاب مرشّح ضمن الخيار الثالث، وهذا يعني أن ما حصل ليس تدخّلاً لمصلحة فريق ضدّ آخر على نسق النهج الممانع.
السبب الثالث، التدخُّل لا يواجه سوى بتدخُّل:
لم يُمسك نظام الأسد بمفاصل الدولة اللبنانية لولا تخلّي المجتمع الدولي عن لبنان، ولم يرث "حزب الله" عن حليفه الأسد مفاتيح إمساكه بالدولة العميقة لولا تقاعس المجتمع الدولي عن تنفيذ القرارات الدولية بالقوة، وفي طليعتها القرار 1559، فلا يمكن لفريق لبناني أعزل يتمسّك بالدستور والدولة أن يواجه دولة إقليمية مثل نظام الأسد ومن ثمّ نظام الخامنئي، ومن البديهي أن يتدخّل المجتمع الدولي لمنع تدخُّل الأسد والخامنئي بشؤون لبنان، وهذا ليس تدخّلاً، بل تنفيذاً للشرعية الدولية.
فمنع دولة من التدخُّل في شؤون دولة أخرى ليس تدخّلاً، ومنع قوى انقلابية على الدستور بقوة السلاح غير الشرعي من أن تواصل انقلابها لفرض معادلاتها "إما مرشحي وإما الشغور" لا يعدّ تدخّلاً، إنما من واجب الدول الحريصة على سيادة لبنان واستقلاله أن تتدخّل إن ضدّ من يستقوي بعضلات الأسد والخامنئي للانقلاب على الدستور، أو ضدّ من يستقوي بسلاحه غير الشرعي للحؤول دون انتخاب رئيس للجمهورية وإبقاء لبنان ساحة مستباحة.
فالتدخُّل الدولي وتحديداً الأميركي والسعودي هو تدخُّل مطلوب منذ 34 عاماً وليس فقط الآن، ودفعاً لانتخاب العماد جوزاف عون، ومن الخطيئة وضع التدخُّل الانقلابي على الدولة والدستور في نفس منزلة التدخُّل الذي يصبّ لمصلحة الدولة والدستور.
وقد عانى لبنان منذ منتصف ستينات القرن الماضي من التدخلات الخارجية السلبية بشؤونه، وهذه التدخلات لا تواجه بالتمنيات، إنما بالطلب من المجتمع الدولي بأن يمارس دوره بالتدخّل الإيجابي من خلال التصدّي للتدخُّل السلبي.
فالتدخُّل الخارجي الإيجابي هو تدخُّل مطلوب، ولا يجب أن يكون بتاتاً موضع خجل لدى البعض، بل المجاهرة به علناً، وتخيير القوى الانقلابية على الدستور وغيرها بين أن تطبِّق الدستور، بدءاً من تسليم سلاحها وصولاً إلى الالتزام بنصوص هذا الدستور، وبين اللجوء إلى عضلات الخارج الإيجابية لتطبيق الدستور.
لن يستقرّ الوضع في لبنان سوى في حالة من حالتين لا ثالثة لهما: وعي لبناني على مستوى الولاء والانتماء والمصلحة للبنان فقط، والحالة الثانية أن تكون العصا الخارجية الإيجابية حاضرة دوماً لمواجهة المشاريع الخارجية التوسعية وحماية سيادة لبنان واستقلاله.
لقد شرب الشعب اللبناني الزوم المرّ والسيّئ طويلاً بسبب التدخُّل الخارجي السلبي في شؤونه، حان الوقت لأن يشرب الزوم الحلو والجيِّد مع التدخُّل الخارجي الإيجابي في شؤونه، والفارق هو بين الأرض والسماء، أي بين تدخُّل أدى ويؤدي إلى الموت والفقر والهجرة والدمار والخراب والفشل، وتدخُّل يؤدي إلى الاستقرار والازدهار والحياة ويعيد لبنان سويسرا الشرق.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك