كتب د. جورج حرب:
كم مرّت بقساوة سنة 2024! لم تترك سلبية في الوجود لم تجلبها، ولم تترك حرباً لم تندلع خلالها، ولم تترك لليأس سبباً لم ترمنا به، ولكنها كانت مفعمة بالدروس. كم كنّا أقوياء، كم كنّا مدهشين!
بتنا نقوم بمجهودٍ يوميّ كي نبقى على قيد الحياة، وبمجهودلحظويّ كي نبقى على قيد الأمل وعلى قيد الرجاء والأمان. وأصعب مواجهاتنا في هذه السنة كانت كالتي سبقتها من مواجهات، ليست ضدّ عدوّ الخارج الذي يرمينا بالصواريخ والقنابل، بل ضدّ عدوّ مستتر يرمينا بكلّ أنواع الموبقات.
إن أردنا أن نتعلّم، علينا أن نعرض إشكاليّاتنا من دون قفّازات، وهذا ما سأفعله اليوم إمعاناً في الكشف عن الحقيقة، وإصراراً على المواجهة الناجحة لربح المعركة الشخصيّة لكلّ فردٍ منا.
إن أردت أن تتعلّم، إعرف أنّ المحيطين بنا، على كثرتهم، قلّة منهم تتمنى لك الخير، والعلاقات التي تصفها بالصداقات، أعد النظر فيها جيّداً وتخلّص من الشائب منها قبل أن تتخلّص منك، كي تبقى واقعياً ولا تقع في غربة لها الكثير الكثير من الشروط والأدوات.
إن لم تكتشف حتى الساعة عناصر سعادتك الحقيقيّة فأنت في غربة، وإن ربطتها بالآخرين فقط فأنت في غربة، وإن لم تشعر حتى اليوم بهذه المودّة الخفيّة السريعة الجميلة الغامضة عند مناجاتك الخالقفأنت في غربة،وإن لم تشعر بهذا الندم القاتل عندما تترك وراءك وعن عمدٍ إنساناً مكسوراً من دون أن يرفّ لك جفن فأنت في غربة، وإن استحوذت اتصالات العمل والمصلحة على أكثر من 80 بالمئة من اتصالاتك عبر هاتفك الذكيّ فأنت في غربة، وإن لم تقف إلى جانب مظلومٍ ولو مرّةً خلال عامٍ كاملٍ ممعناً في لامبالاتك فأنت في غربة، وإن لم يتصل بك صديق رائع ولم تتصل به منذ أكثر من شهر فأنت في غربة، وإن لم تتخطّ أشخاصاً وضعتهم الصدفة في مقلبٍ مؤذٍ لك وما زلت تفكر في الانتقام، فأنت في غربة، عليك أن تبعد وعليك أن تتخطى.
لا تحلم يوماً بأن يفهمك كل الناس بعمق، الناس لا تهمّها إلا المآثر والبطولات الخارجيّة، الناس تكره الحقيقة، الناس تنفر من الواقع. إن أردت أن يحبك الناس أخبرهم بما يريدون سماعه، أما إن أردت الرحيل عنهم فأخبرهم بالحقيقة، وقد بات من الثابت أنه، كلما ابتعدت المجتمعات عن الصدق زادت عدائيّتها تجاه الصادقين، وكلّما غصّت المجتمعات بالفاسدين ازداد نفورها من "الأوادم"، معهم، لا تستطيع تحقيق شيء من التقدم نحو الحقيقة، فابتعد، وافرضها فرضاً، ومن أراد منهم فليقتنع ومن لم يرد فليرحل، ولا تأسفنّ على رحيله.
في العام 2024، تساءلت دائماً لماذا كلّ هذا الغضب الكونيّ على لبنان واللبنانيّين؟ لماذا تركَنا العالم كله في معاناتنا أمام الحرب والقتل والانهيار والفقر والفساد؟ أيّمصلحة عالميّة وضعتنا في هذا المأزق لنواجه قدرنا بكل هذه الضراوة والقساوة؟
الجواب الذي لم يفارقني، أن اللبنانيّين عاشوا لمئة عامٍ في كذبهم على أنفسهم، وفي ما بينهم،وعلى الآخرين، لم يحبّوا أحداً في حياتهم، وحكمت علاقاتِهم المصلحة والحاجة والتكاذب، وكرهوا كلّ ما يتّسم بالنجاح والإبداع، وفضّلوا دائماً التعاطي مع ضعاف الإرادة والعقل والنفوس، يحبّون الكَذَبَة، ويرتاحون إلى السخفاء وبائعي الأوهام، والجدّيّون من اللبنانيين يصنَّفون في خانة صعاب المراس، فيُبعدونهم ويَبعدون عنهم فتنشأ حالة من العدائيّة المتبادلة بين الأذكياء والأغبياء، وفي لبنان يا سادة، الغلبة والسعادة كانتا دائماً من نصيب الأغبياء.
في العام 2024، تذكّرت الكاتب الفرنسي روسو عندما صرّح في أحد مقالاته، أن أغبى المخلوقات الأرضيّة كان الإنسان عندما قرّر أن يُعمل عقله، وأجابه فولتير بعد مدّة – وقد كان روسو من أكثر المعجبين بفكره – عندما عرض عليه روسو نفسُه أحد كتبه التي أورد فيها تلك العبارة: "أنت يا روسو أراك في هذا الكتاب أكثر من أعمل عقله"، من منطلق أننا لا نستطيع أن نعيش من دون أن نُعمله.
عند التدقيق في عمل العقل وتكوينه، نجده غارقاً في سائل غامض، معزولاً لا يدخله نور، فكيف له أن يخرج بكلّ تلك الإبداعات من كل ذلك الظلام الدامس! إنّها الحياة، تعلّمنا أنّ أكثر الإبداعات إثارةً تخرج من رحم الظلام البارد، والحبّة التي لا تُطمر ولا تموت لا تنبت ولا تحيا، وعندما نجد أنفسنا في بيئة عدائيّة للغاية وظروف حالكة قاهرة لا تُطاق، علينا أن نعي أننا في الظرف والوقت المناسبين للإبداع... إنها من أسرار هذه الحياة.
في الختام، إن آمنّا بهذه المبادئ، واقتنعنا بأنّنا أقوى المخلوقات وأروعها وأضعفها في آنٍ معاً، وإن اعتقدنا بأن المواجهة الإيجابيّة هي طريق خلاصنا، يمكننا تخطي 2024 وما بعدها، لنصبح على يقين بأننا سنصل في يومٍ ما إلى حياةٍ في لبنان نقيضة لما سبق ولما جرى على مدى عقود، وباتت تلوح ملامحها لعيون مختلفة النظرات تتقاسم اللبنانيّين، فمنهامن لا يريد أن يصدّق، ومنهامن لا يريد أن يرى، ومنها من يعيش حالة إنكارٍ قاتلة وستصبح قاتلة أكثر خلال المرحلة المقبلة إذا ما أصرّت على ذلك، متمنياً أن تكونوا ونكون من أصحاب العيون التي تلمع أملاً بالمراحل المقبلة المشرقة في العام 2025، وعندئذ ومن صلب داخلنا يمكننا أن نتمنى للجميع عاماً سعيداً وفريداً وكاسراً للحلقة الدائريّة التي كرّرت نفسها على مدى سنوات، وبسرعة دورانهاالطاردة رمت اللبنانيين أرضاً.
فلنقف ويقف الجميع استعداداً للمسير الجميل الآتي، وكلّ عام وأنتم بخير.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك