إعادة سرد هذه القضية، التي كانت مجال متابعتي خلال عملي الصحافي، تأتي للإضاءة على الـ(لا)سياسة الاتصالية التي يقوم بها ممثلو حزب الله في الدولة اللبنانية. وهي تصلح مثالاً نموذجياً لتدريس الاتصال السياسي: كيف يقتل وزير إنجازاً، وكيف يحوّل وزير آخر كلّ تفصيل بسيط إلى حدث؟ ذلك أن وزير الداخلية الذي كان زميلاً لفنيش في عام 2009، ليس إلا زياد بارود. ولا نعتقد أن اللبنانيين بحاجة اليوم (بعد مرور سبع سنوات على توليه الوزارة) إلى من يذكّرهم به وزيراً، وهو الذي كان حاضراً بقوة في وسائل الإعلام من خلال مهارته في صناعة الأحداث، حتى حين تغيب. فيعقد مؤتمراً صحافياً طارئاً للاحتجاج على ازدحام السير مرة، وينظّم السير مرة أخرى، وتكتب تقارير متعددة عن فشل سيارته في المعاينة الميكانيكية مرة ثالثة، إلخ.
لا يشكل الوزير محمد فنيش حالة استثنائية في حزب الله، إذ يغيب أعضاؤه (الوزيران والنواب) عن الإعلام بشكل لافت: لا يجرون مقابلات، لا يطلون في برامج تلفزيونية، وهم غير حاضرين على منصات مواقع التواصل الاجتماعي (باستثناء صفحة الوزير حسين الحاج حسن على موقع فايسبوك التي أطلقت في عام 2014).
هذا الغياب ناجم عن قرار معلن من حزب الله، يمنع فيه سياسييه من الظهور الإعلامي لتفادي الدخول في سجالات، في ظلّ الانقسام السياسي الحاد الذي خيّم على لبنان في السنوات الأخيرة.
وكان بعض الإعلاميين يشتكون من هذا الغياب، ومنهم من اعتبره موجهاً ضده بشكل خاص. بناءً عليه، كانت الإطلالات الإعلامية لنواب حزب الله ووزرائه تقتصر تقريباً على تقارير إخبارية تبثّها قناة "المنار"، وتنقل فيها كلماتهم في القرى التي يزورونها في واجبات العزاء، فلا يتناولون فيها الملفات التي يتابعونها. لذلك لا يعرف اللبنانيون شيئاً عن أداء وزيري الحزب في الحكومة، ويمكنهم أن يردوا "لا إنجازاتهما" إلى تولّيهما "وزارات غير سيادية يصعب تحقيق إنجازات فيها". وهذا ما تنفيه تجربة الوزير الياس بو صعب في وزارة التربية مثلاً.
يمكن تفهّم "سياسة الصمت" التي اتبعها حزب الله، وتعداد إيجابياتها إذا نظرنا إليها من زاوية ما يجب أن يكون عليه العمل السياسي الحزبي. فهي أبقت الموقف السياسي للحزب مرتبطاً بما يصدر عن أمينه العام، وحققت نسبياً رغبة الحزب في «عدم الدخول في سجالات» تقوده إلى حيث لا يريد، كما أتاحت للحزب أن يبقي عمله مضبوطاً بعيداً عن لعبة الإعلام وما تفرضه من شخصنة ومسرحة على اللاعبين، وحدّت قليلاً ممّا يمكن أن تسبّبه من علاقات غير سليمة تنشأ بين السياسي والإعلامي.
لكن هذا الصمت منع اللبنانيين من بناء "صورة" لسياسيي حزب الله، وحال دون تقدير مناصريه للإنجازات التي حقّقها لهم، وهي كثيرة، بحسب ما يظهره الكتيّب الذي أعدّ أخيراً.
صحيح أن الدراسات العلمية تؤكد عدم وجود علاقة مباشرة بين الظهور التلفزيوني والفوز في الانتخابات، وأن الحزب السياسي يتّكل على خطابه وفكره ليقنع الناخبين بالاقتراع للمرشحين الذين يختارهم، لكن هناك تأثير غير مباشر تمارسه وسائل الإعلام على السياسيين، لأنها تسهم في إظهار شخصياتهم، وبنائها حتى. المرشح الذي يدخل بيوت الناس عبر الشاشة يحظى بفرص أكبر من المرشح الذي يتنقل بين القرى. والسياسي الذي يخبر الناس عمّا يقوم به، ويريهم ذلك، يسمح لهم بالقول إنه يعمل، فلا يسألونه لاحقاً: ماذا قدّمت لنا؟ ليجيبهم: "رافقوني لأريكم حجم العمل الذي أقوم به"، أو "عودوا إلى محاضر مجلس الوزراء لتحكموا على أدائي". وهما إجابتان سمعناهما مؤخراً من سياسيين في حزب الله. وأيّ مراقب للأداء الإعلامي الأخير يمكنه أن يسجّل الكثير من الملاحظات التي تستحق الإضاءة عليها.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك