حاول حاكم مصرف لبنان رياض سلامه أن يبدّد المخاوف، ويؤكد على عافية القطاع المصرفي، إنه على صدقيّة عالية، ورجل ثقة، لكن الحقيقة عند الوفود الأميركيّة الزائرة في مكان آخر، لم يهضموا سياسة النأي بالنفس، ليس في مصطلحهم شيء من هذا القبيل، ولسان حالهم في هذا المجال، هو لسان حال الاتحاد الأوروبي، لا بل المجتمع الديموقراطي الغربي بأسره.
النأي بالنفس، كيف؟، والانقسام العمودي بلغ القعر، بين لبنانيّين مع الانتفاضة السوريّة، وآخرين مع النظام. وأين يصرف هذا الرصيد الذي إسمه النأي بالنفس، والمضاعفات السلبيّة بلغت الخطوط الحمر، ليس فقط في السياسة، بل في الاقتصاد، والسياحة، والتجارة، والترانزيت، و»الارتدادات» الماليّة، وقد جاءنا الأميركي يحذّرنا من الإفراط في التعامل مع المصرف المركزي السوري، والمصرف الإيراني.
لم تحسن الحكومة ترجمة النأي بالنفس كما يجب، اعتمدت على الكلام فقط، وهو مقنع لبعض الوقت، وليس كلّ الوقت، فيما تولّت البعثات الدبلوماسيّة رصد المردودات الإيجابيّة، فلم توفّق، وسرعان ما اكتشفت أنّ لبنان جبهة مفتوحة أمام صراع المحاور الذي استولد طائفة كبيرة من الأزمات، بدءاً بالكهرباء، وأزمتها المتفاقمة نتيجة الصراع ما بين العروض الإيرانيّة من جهة، والعروض الأميركيّة - الحليفة من جهة أخرى، فضلاً عن الأزمات الأخرى التي تتنزّه بنودها من جدول أعمال مجلس وزراء، الى جدول أعمال جلسة أخرى.
وتملك بعض الهيئات الاقتصاديّة دراسة تؤشر الى مرحلة صعبة، وتستند الى طبيعة المرحلة الانتقاليّة المتوترة التي تجتازها المنطقة، وأخطر ما تتناوله من توقعات، أن الأحداث في سوريا مستمرّة من دون أفق، رغم التدخل الدولي، وتكليف كوفي أنان وضع الآليات التي تؤدي الى وقف النزف، وفتح الممرات الآمنة أمام المساعدات الإنسانيّة؟.
إنّ فترة السماح قد انتهت، وجاء الأميركي ليراقب ويحاسب، ويعطي الضوء الأخضر للبعثات الغربيّة أن تحذو حذوه. ولرئيس الحكومة نجيب ميقاتي ملء الحق في أن يتغزل بسياسة النأي بالنفس، إنها ضرورة لو طبّقت بحذافيرها، أمّا أن تطبّق في الإعلام فقط، فهذا منتهى الإستخفاف، لأن حكومته - قبل الفعاليات السياسيّة - لم تطبّق سياسة النأي بالنفس كما يجب، فهي منقسمة على نفسها، ويرأس هو شخصيا محورا يتناغم الى حدّ بعيد مع السياسة الأميركيّة - الغربيّة -الخليجيّة، مقابل محور آخر داخل حكومته يتعاطف بقوّة مع السياسة الإيرانيّة - السوريّة؟.
لقد عاد الأميركي ليقول بأنّ لبنان لا يمكنه أن ينأى بنفسه عن العقوبات الدوليّة ضد سوريا، بل عليه أن يتقيّد، وينفّذ ما تمليه عليه آليّة التطبيق. ولا يمكنه ان ينأى بنفسه عن مندرجات الملف الإنساني من تقديم المساعدات الى المصابين، استقبال أفواج النازحين، ومعاينة الجرحى والمصابين، الى حماية الحدود، وتقديم المساعدات... ولا يمكنه أن ينأى بنفسه عن حماية المعارضة السوريّة، إذا ما لجأت إليه.
وجاء الوفد الأميركي ليرسم الخطوط الحمر، ويحدّد معالمها، إنها خمسة.
الخطّ الأول: أنّ الأزمة في سوريا طويلة، والحلّ ليس غداً، ولا بعده، هذا إذا كان ثمة بصيص أمل في تسوية ما. وعلى لبنان - «النأي بالنفس» أن يعرف كيف ينأى بنفسه عن التداعيات المهلكة، ويستخلص العبر. والثاني: في زمن العقوبات الدوليّة بحق سوريا، من غير المسموح دوليّاً أن يتحوّل لبنان الى بوابة مفتوحة تعبرها السلع التي يحتاجها النظام؟!. والثالث: أنّ لبنان جزء من الهلال الإنساني، الذي يمتدّ من تركيا، الى الأردن، بالتالي تقع على عاتقه مسؤوليات أدبيّة ومعنوية في استقبال الجرحى والمصابين، وإيواء النازحين، وتقديم المساعدات ولو في حدود طاقته، وإمكاناته. والرابع: لا يمكن للبنان أن ينأى بنفسه عن البيان الأخير الصادر عن مجلس الأمن، وعن المساعي التي يقوم بها كوفي أنان لحقن الدماء. فهل هو ضدّ حقن الدماء؟!. والخامس: أنّ سياسة النأي بالنفس استندت الى أنّ الأزمة قد تمتدّ الى أسابيع وتنتهي، لكن بعد مرور عام على النزف، وبدء العام الثاني، فإنّ المطلوب معالجة التداعيات، وليس الاكتفاء فقط بالشعارات؟!.
إنّ المجتمع الدولي قد فوّض أنان، والبيان الرئاسي الأخير الصادر عن مجلس الأمن خير دليل، لكن سوريا قد تحوّلت الى مسرح للعبة الأمم، والكل له رأيه، وقد يكون للبعض مصلحة في وقف العنف، ولكن للبعض الآخر مصلحة أكيدة في التوظيف بالفتنة، فهل تقتصر مهمّة أنان - إذا ما نجحت - على استراحة مؤقتة، ليعود النزف ويتجدّد؟!
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك