تقرّر أميركا وقف المفاوضات الهادفة إلى وقف إطلاق النار في سوريا. فتقول روسيا إن الولايات المتّحدة ليست جديّة في إدارة المفاوضات أصلاً. كلتاهما تشكو من نيّة الآخر بتحقيق تقدّمٍ عسكريٍّ يفرض واقعه على طاولة التفاوض. وبنود اتفاقية التهدئة الأخيرة التي أعلنتها وزارة الخارجية الروسية اختصّت بالتنسيق العسكريّ بينهما وضبط الخروق. التفاوض على وقف الحرب يفشل، فيحتاج مكاسب حربيّة أكبر، تتيح التفاوض على وقف الحرب مجدداً. تلك الدائرة التي تبدو مقفلة، هي سياق كلّ حربٍ تستقطب وتنمو ثم تبلغ حالةً تمكن تشبيهها بثمانينيّات حرب لبنان.
في الثمانينيّات، تتجلّى الهوّة الفضائحيّة بين مستويَي "الحدث". واحدٌ يلاحق خيط المفاوضات، والثاني ينقل وقائع الأرض. لكلٍّ من المستويين أثرٌ محوريّ في الآخر، من دون أن يلغي ذلك أسف المفاوض للمجازر، وتجاهل المقاتل أثره كورقة تفاوض. علامات "الثمانينيّات" تظهر على التغطية الإعلاميّة أيضاً. تقلّ صور التفاوض، تصبح مكرّرة أو متشابهة، فيطمح السبقُ البصريّ إلى ملمحٍ يخرج بالعين عن المتوقّع والسائد ديبلوماسيّاً، كنظرةٍ غير ودّيةٍ بين فلاديمير بوتين وباراك أوباما. وبينما تستحيل التغطية السياسية سيلاً من الأخبار والتسريبات والتكذيبات وقرارات بعدم النشر يليها نشر، تكثر الفيديوهات والصور والأرقام المرعبة الآتية من أرض الحدث والنار، واليوم هي حلب، حتى يبدو الاقتراب من المجاعة شرّاً مؤجلاً يكاد أن يكون القلق منه ترفاً في ظل الراهن الدمويّ. في الثمانينيات الحربيّة، نرى الدم ولا نرى الفاعل. فالفاعل موجودٌ في المفاوضات، يسعى لحقن الدماء. وهو يُسيل الدماء، لتتحسّن شروط المفاوضات.
في ثمانينيّات الحروب، يبدأ تسلّل الحديث عن "كلهم" الذين خربوا البلد، ويصبح "وقف إطلاق النار" محطّة كلامٍ تطهّرية في كلّ فمٍ سياسيّ. الناس يموتون طالما وقف إطلاق النار لم يتحقق. ووقف إطلاق النار لا يتحقّق ما دامت المفاوضات لا تتقدّم. وأخبار المفاوضات تأتي من مصادر البيت الأبيض والكرملين. مع تقدّم الثمانينيّات، تهدأ الطموحات، تتواضع القضايا، وتنتشي "دعوات التهدئة". أهل الخنادق لن يتنازلوا عن صراخ السنوات الماضية، لكن كثير الصراخ ما عاد يتوهّم الفاعلية. الانتقال يتمّ إلى مقاعد المتفرجين، بينما الحرب تستعر على الأرض. في الثمانينيات، يتكثّف إجرام الحرب، على إيقاع مفاوضاتٍ تستمر لأشهرٍ، قبل أن «تفشل»، بينما يتمنّى الطرفان العودة إلى طاولة المفاوضات "لحقن الدماء" ذاتها التي غذّت المفاوضات.
في الثمانينيات، تتكثّف "التحليلات السياسيّة" وتتناقض مع نفسها، بين يومٍ وآخر، بلا خفر. تحكي عن ضغطٍ على طرف، استفزاز وضبط النفس، موقعٍ تفاوضيّ أقوى، إلخ. وتخفت تماماً كلماتٌ تكون قد انتشت مسبقاً كالعدالة، الحرية، المحاسبة، أو الممانعة. تُستبدل بتعابير تطهّرية تبقى واقعيّة، فلا تجافي المُثل العليا في صياغتها لـ"ثمانينيات الحروب"، كوقف النار، والممر الآمن، وحقن الدماء، والأبرياء.
مطالب الثورة ليست مطروحة على أيّ طاولة. أدبيّات الصمود والتصدّي والمؤامرة بدورها ليست مطروحةً على طاولة. كلّ ما هو مطروحٌ يعني المستويين الإقليميّ والدوليّ، فلا يُستدعى المحليّ إلا كترجمةٍ لهما أو أداةٍ فيهما. لا بد أنّ على الأرض أبطالاً وشهداء وأبرياء ومجرمين وظلماً لا حدّ له. لكن المفاوضات تجري بين روسيا وأميركا، أساساً. وفي روسيا وأميركا، لا الدم يسيل ولا المدن تدمّر ولا من يحزنون.
هذه هي سمات الثمانينيات: تستمر الحرب بقوّة مفاوضاتٍ تحكي عن ضرورة وقفها.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك