باسم "العيش المشترك" يقدم السياسيّون المسيحيّون، أو معظمهم، على نحر المواطَنة وكلّ قيمة من قيمها. باسم "العيش المشترك" يريدنا هؤلاء أن نتقهقر إلى عصور اعتقدنا أنّها غبرت إلى غير رجعة، إلى زمن القبائل والعشائر، إلى القرون الوسطى والحقبة العثمانيّة ونظامها الملّيّ. يريدوننا أن نعود إلى زمن العصبيّات الطائفيّة والمذهبيّة.
كم من الجرائم ترتكب باسم "صيغة العيش المشترك". صيغة باتت أهمّ وأكرم من الإنسان المواطن الحرّ. باسمها تُحرم المرأة اللبنانيّة المقيمة في وطنها والمتزوّجة من رجل أجنبيّ أن تمنح جنسيّتها لأولادها. باسمها يُحظّر على كثر من اللبنانيّين أن ينالوا حقوقهم في وظائف الدولة ومراكزها على أساس الكفاءة. باسمها يُمنع بعض المواطنين اللبنانيّين، حيث هم ينتمون إلى أقلّيّة طائفيّة، من أن يكونوا نوابًا في مناطقهم...
والآن، باسم "صيغة العيش المشترك" يتمّ نحر المواطنة على مذبح الطائفيّة بأبشع صورها. قانون انتخابات متخلّف، يقوم على قاعدة أن ينتخب أبناء كلّ طائفة نوابهم، اعتبره المجتمعون في لقاء بكركي "صيغةً صالحة لتحقيق التمثيل العادل والفاعل لكلّ الفئات الشعبيّة، ولترسيخ المناصفة بين المسيحيّين والمسلمين التي تكرّس صيغة العيش المشترك". هو قانون متخلّف لأنّه، على نقيض ما يزعم الذين تبنّوه، غير عادل. فأبناء أقلّيّة طائفيّة في أحد الأقضيّة لن يكون في مقدورهم انتخاب مرشّح من قضائهم لأنّه ليس من طائفتهم، بل عليهم أن يختاروا مرشّحًا من قضاء آخر ينتمي إلى طائفتهم. هذه، مثلاً، حال الناخب السنّيّ والمارونيّ والشيعيّ في الكورة، وحال الناخب الأرثوذكسيّ والكاثوليكيّ في بعبدا أو في صيدا...
ثمّ كيف يمكن الحديث عن المواطنة، وفي الوقت عينه يحجب هذا القانون عن المواطن اللبنانيّ أن يختار المرشح الأفضل لتمثيله من خارج طائفته. لماذا تريدون منعي، أيّها السادة، أنا الكاهن الأرثوذكسيّ، من أن أختار مَن أراه الأنسب لشرف تمثيلي في المجلس النيابيّ من دون أن آخذ في الاعتبار انتماءه الطائفيّ، بل برنامجه الانتخابيّ وسيرته السياسيّة وتفانيه في سبيل الخدمة العامّة؟ لماذا تريدون إرجاعي إلى القبيلة، أنا من يريد الخروج منها إلى فضاء المواطنة والحضارة والحداثة؟ لماذا تحرمونني أبسط مبادئ حقوق الإنسان عبر حصري في طائفة أراها تقضي على الأسس اللاهوتيّة التي تقوم عليها كنيستي؟ تلك الكنيسة التي عمادها الإيمان، لا العصبيّة الطائفيّة. تلك الكنيسة التي عمادها يسوع المسيح لا أيّ زعيم أو نائب أرثوذكسيّ ولا أيّ هيئة سياسيّة أرثوذكسيّة؟
أطلق ما يسمّى "اللقاء الأرثوذكسيّ" هذا المشروع المتخلّف، وتلقّفه "لقاء بكركي" المارونيّ. صحيح أنّ هذا الأخير قد دعا إلى درسه واستشارة كلّ الطوائف الأخرى من أجل اعتماده أساسًا للانتخابات النيابيّة القادمة، غير أنّ هذا المشروع قد راود الكثيرين منهم عن أنفسهم، ودغدغ مشاعرهم الدفينة، وأيقظ فيهم العصبيّة الطائفيّة، وزاد من نهمهم وشرههم إلى زيادة مقاعدهم النيابيّة. هم لم يفكّروا في "العيش المشترك"، ولا في المواطنة الحقيقيّة، ولا في المصلحة الوطنيّة العليا، ولا في الوحدة الوطنيّة المقدّسة، بل فكّروا في عدد المقاعد التي يمكن أن تزاد إلى رصيدهم إذا ما تمّ اعتماد هذا القانون.
هذا القانون ليس أرثوذكسيًّا، وليس مستقيم الرأي، وهو يخالف كلّ التراث الأرثوذكسيّ، لاهوتيًّا وفكريًّا وحياتيًّا، في هذه المنطقة. والدليل على سوء على المشروع هو أن يجمع الزعماء المسيحيّون على تبنّيه! فتّشْ عن المصالح، وانسَ كلّ كلام وطنيّ جامع.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك