محمد علي الحوماني في كتابه "بين النهرين" وغيره
هذا الإصدار من دار المدى هو الثاني بعدما اصدرت ديوان "حواء" للشاعر والأديب محمد علي الحوماني في سياق إحياء الممتاز من تراثنا القريب الموصول في مسائله ولغته بحاضرنا ومستقبلنا الى حد كبير، والذي تضربنا وبه القطيعة والنسيان. ومن هنا فإننا نعيد تقديم الكاتب والكتاب آملين في أن تستمر دار المدى على عنايتها بهذه المدخرات لنستكمل الحوماني مع غيره ممن بكرت المدى الى إحياء تراثهم بصرف النظر عن جنسياتهم الخاصة طالما انهم ينتمون بعمق الى هذا المدى الواسع من الجغرافيا والتاريخ المشترك والإنتماء الجامع وبصرف النظر كذلك عن أفكارهم التي قد نختلف معها وقد نتفق ولكننا نقرأها في ظروف إنتاجها ولا نجردها من تاريخها خاصة وأن الأكثر فيها موصول بهمومنا الراهنة واعتراضاتنا وتوقعاتنا في السياسة والفكر والاجتماع والسلوك.
وعليه فإن الاهتمام ينصب على الكاتب كما على الكتاب الذي يتحدث عن العراق ناقلاً صورته المركبة كما رآها الكاتب عن كثب وببصيرة ثاقبة ولغة محبة ومحببة في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، أي في أعقاب نهاية الحرب الثانية وبروز تحديات المعاصرة والنهوض المترتبة على تلك النهاية على عاتق الدول الوطنية التي تشكلت كالعراق في الربع الأول من ذلك القرن وتضاعفت مسؤولياتها لاحقاً بسبب ما أعقب الحرب من استقلالات كان طموح المواطنين وقتها يريدها ناجزة فكانت شديدة التعقيد والنقص والخلل، واعترى الطبقات السياسية التي تصدت لها الكثير من القصور والتقصير والصراع على السلطة أكثر من التنافس على بناء الدولة، ما انعكس نقصاً شديداً في حركة التنمية التي عاين الحوماني من مسافة موضوعية مساعدة مفاعيلها في العراق وعانى مع الشعب العراقي آثارها فنقلها بأسلوب أمين مشوب بالولاء المبالغ فيه للاسرة المالكة وقتها في العراق من دون أن يؤثر ذلك في رؤيته النقدية التي تعود عليها حيث أقام ورأى.
محمد علي الحوماني (ت 1964 م ودفن في بلدته حاروف قضاء النبطية) اشتهر بالشعر أولاً وبالغزل أساساً وإن كان غزله قد امتد الى وطنه لبنان في لحظة حرجة فتحول الى نقد حاد وجميل للسلطة وبدا وكأنه تعبير عن شدة الولع بالبلد وأهله.. وفي غزله كما في حياته، تحرر محمد علي الحوماني من بيئته الدينية وأعرافها وإلزاماتها الى حد يعتبر كبيراً نظراً الى منبته ومنشأه ويعتبر عادياً بالنظر الى السائد في وسط واسع من المجتمعات العربية، وإن زاد هو عليه في علاقته بالمرأة ذاتاً وموضوعاً، روحاً وجسداً، ومن دون إخفاء، سوى قليل من الخفر الضروري للفن والأدب. وقد بلغ بالتعبير عن الحب نهاية الرح وآخر الجسد ونال على ذلك لوماً شديداً وإعجاباً أشد.
كان الحوماني جواب آفاق من العراق أولاً وثانياً طالباً في الحوزة الدينية في النجف نحو سنتين مقطوعاً عنها بالمرض ثم منفياً أو معاقباً على الشعر ثم الى الحولة في فلسطين مبعداً والى الأردن منفياً والى الأميركتين مستعلماً ومعلماً وباحثاً عن أسباب الحياة الى مصر مقيماً باختياره مندمجاً حتى أصبح عضواً فاعلاً ورائداً في حركة الفكر والأدب في مصر ومقدراً لدى كبارها ومحبوباً وكأنه مصري أباً عن جد. وفي إقامته واحتضان مصر له شهادة لجدارة الأمومة في هذا المصر العربي الذي يكاد يكون ميزان العرب والمسلمين في آسيا وإفريقيا. لقد حول الحوماني قلمه الى آلة تصوير بالبصر والبصيرة، متقدمة تقنياً بالموهبة على أدوات عصرها، فصور بالألوان البلدان والمجتمعات التي اندمج فيها وبلغ بحشريته الأدبية والاجتماعية الى أن يمسك بخلفيات الصورة فقدم لنا صوراً ثلاثية الأبعاد بالمعيار الفني والعلمي، عن لبنان والعراق وغيره من البلاد التي نفي اليها أو اختارها مقاماً وبيئة أدبية له واندمج في عمومياتها وتفاصيلها وكأنه مواطن حقيقي لا يشعر بالغربة ولا يشعر الآخرون بغربته ولا غرابته.
وكانت صورة أو لوحة العراق هي الأوسع والأبرز كما ظهرت في كتابين هذا أحدهما وقبله كان كتابه " حديث الرافدين" ( سوف يصدر عن المدى لاحقاً) ولم تغب صورة العراق ومشكلاته وإبداعاته عن باقي كتب الحوماني الكثيرة، مقدماً بذلك دليلاً ساطعاً على أن العراق اجتماعاً وتاريخاً وثقافة، متجذر في الثقافة العربية عامة في ثقافة جبل عامل جنوب لبنان، خاصة من خلال سرة الرحم العلمية والأدبية (النجف) التي منها يرى نزلاؤها الأزهر كشقيق متمم ويزدهر فيها حب مصر التي قدم أهل النجف شهداء في مظاهرات الاستنكار للعدوان الثلاثي عليها والتي انتهت الى محيط مرقد علي (ع) فانفجر الغضب هناك انحيازاً للعدل والحرية وسقط الشهداء برصاص الشرطة. استكمالاً لثورة العشرين والثورة الدستورية التي قادها في طهران خريجو النجف. ومن دون أن يحظى العراق والنجف برد للجميل يناسب معاناته من الظلم والإجرام في عهد حسني مبارك كله وقبل احتلال الكويت خاصة. هذا قبل أن يتحول العراق الى مزرعة تتوارثها أفخاذ القبائل وتلغي الدولة بالسلطة وتلخص السلطة بالإستبداد فتغيب الحرية مع الخبز على الرغم من أن في العراق مطراً موسمياً من السماء ومطراً دائماً من باطن الأرض وفراتيْن وأنهاراً أخرى.. ويكتمل الاستبداد في العراق بالمقابر الجماعية. حتى إذا عاد العراق الى العراق عودة معقدة وتأسس على الحرية والسيادة من المحتل الوطني والأجنبي حتماً، عاجله الوالغون بالدماء بإرهاب وتخريب ما لبث بالصبر والشجاعة والحكمة أن تراجع منسوبه لينتظر العراقيون نضج فكرة الدولة وإعادة بنائها على الحرية والإستقامة والكفاءة وإن تعثر السياق في هذا الشأن فإن الأمل بالعراق كبير.
قرأ الحوماني العراق في تلك الفترة المتوترة والواعدة في الإجتماع العراقي الذي كان ذاهباً الى اكتساب المعارف وإنتاج المعرفة من أجل التغيير.. وقرأ المزاج العراقي العام والأمزجة الفرعية المشتقة منه والمنعوتة بالنزق في الحب والبغض والكرم والصداقة والعداء والتضحية والإستئثار والتقدم والتخلف والإصرار على الحرية والإذعان والهدوء والحزن والفرح والإستعداد الدائم للأنفجار المدمر. وفي قراءته لمسلكيات الصفوف الأولى في السلطة والإدارة والوجاهة والعلم والعمل والثروة والفقر والتقدمية والرجعية، كان يتجول في فضاءات ومناخات تشبه مُناخات أبي حيان التوحيدي بفصاحته وبلاغته وانفعالاته وثقافته الموسوعية ومزاجيته وحموضته وحدته واندفاعاته وتراجعاته ومراجعاته وإشراقاته التي تنبثق وكأنها فُجاءات من صميم سوداويته وإحباطاته مع مقدار أقل من النكد وسلاطة اللسان واليأس والتقريع والسخرية والتظلم والشكوى، وإرادة أشد لدى الحوماني في تدوير الزوايا (كان راغباً وهو لا يرهَب) وتدوير اللغة عندما يغضب أو يكره، مع مراودة مراوغة بذكاء وخبث فني لما يريده، ليصل المراد الى وعي القارئ برشاقة اللذع في النار أو العذوبة في الماء الفرات..هذا إذا كان القارئ ثقيفاً حصيفاً وخبيراً بالطبائع والأساليب.
واشتهر الحوماني كما قدمنا بالشعر الإعتراضي والإحتجاجي والنقدي والتنديدي المقذع أحياناً، بل أحياناً كثيرة، للحاكم، وقد مارس ذلك في حق كثير من الحكام، ولكنه ركز على أكبرهم في لبنان في زمانه وبلغ مداه في هجائه المر والصريح مع تجيهل اسمه (فلان) مخالفاً ما اشتهر صدقاً أو مبالغة من سيرة هذا الرجل الكبير الذي كان صديقه ومساعده وربما كان ينصحه قليلاً بذهنية العالِم ولا يقبل إلا قليلاً بذهنية الحاكم. وقد أقدم على ذلك في لحظة كان الرجل فيها في ذروة قوته بسبب دوره المشهود في تأسيس الاستقلال والجلاء وتحقيقه على وطنية جامعة يدين فيها الى منشأه الجنوبي اللبناني الذي تعلم منه هو والأعلام من أسرته أهمية التعدد وقيم الحوار والعيش والتمثيل المشترك. ولكن موجبات السلطة تختلف عن موجبات الزعامة الوطنية العامة كما أن القيادة من موقع المسؤولية العليا تفتح العيون النافذة على التقصير سواء كان ناتجاً عن قصور أو عمد. وهنا يرى ذوو الحساسية النقدية أن التقصير لا يغتفر بالتراث الإيجابي للحاكم بل تصبح الحسنات سبباً إضافياً للمؤاخذة على السيئات.
وهكذا غضب رياض الصلح رئيس وزراء لبنان وقتها وأوقف طباعة الديوان ومنع نشر المطبوع من نسخه ونفى الحوماني الى العراق والديوان قيد الإعداد للنشر في المطبعة بعنوانه الأول (فلان) الذي يصل فيه التنكير البليغ الى حد الإستفادة منه في تعدية مفاعيله الى فلانات عدة في مشهدنا الراهن ممن قصروا في حق الوطن والمواطن وأفسدوا من دون أن يكون لهم ما لرياض الصلح من التراث المضيء.
وفي نهاية عملنا على استعادة الحوماني وتراثه قد ننشر ديوانه "المعلقات العربية الجديدة" التي هي قصائد تمجيد وتحميد وزير عربي كان سخياً على الحوماني في لحظة فقر وضيق شديد الى ما هو معروف عن شاعرنا من البذل الذي يصل الى حد التبذير ما يجعله قريب الفقر يمر به اليسر مروراً سريعاً أو عابراً.. سنؤخر النشر لأسباب الحرج الإجتماعي وسوف ننشر لضرورة الفن وجمالية النص وللأمانة ولأن الشاعر بشر ايضاً يجوع ويشتهي ويطمح ويطمع ويكفر بمن يمنعه ويبالغ ويقذع ويمتدح من يمنحه ويبالغ وبين مبالغة ومبالغة يبلغ ذروة البلاغة.. وعلى كل حال فإن بشرية الحوماني الجامحة لم تؤثر سلباً على إبداعه بل كانت تزيده ألقاً بالمخالفة، مخالفة الحق والباطل على حد سواء، وهما نسبيان كما ينبغي أن يُعلم حذراً من الإطلاق التجهيلي الذميم والمانع للمعرفة والفن.. هذا والشعر غير العلم وغير الدين، نزاع الى بلوغ المعنى وما وراءه والجري وراء المخيال الى آخر الخيال وحقيقة المتخيل والتي قد تكون متخيَّلة أيضاً ولكنها أعمق حقيقة، وأشد أحقية لأن الفن حق آخر لا يلغي الحق الآخر بل يضيئه بالإختلاف عنه أو معه.. وهذا هو جدل الفن والحياة الذي أتقنه الحوماني. ومع الحوماني ونصوصه الجدلية والحوارية والسجالية بينه وبين جيله وبيننا وبينه وبين الحقائق وصورتها في الذهن وبين المشهد ونهاياته ومآلاته وبين المعرفة القارة على السطح وبين المعرفة القلقة المسكونة بالسؤال مفتاحاً ومعطى معرفياً مفتوحاً على النمو كماً ونوعاً.. مع الحوماني يتضح مرة أخرى أن في الماضي ما يستأهل الإستقبال كما أن في الحاضر ما يستوجب الإهمال.
أخيراً يمكنني أن أقول بأن الحوماني هو الآن اكتشاف لأنه لم يعد متداولاً إلا لماماً على ألسنة قلة ممن تبقى من جيله الذي تعامل معه بإعجاب أكثر من المحبة وقد كتب أحدهم ما أراد منه ذماً للرجل فجاء مديحاً بالغاً، ما يعني أن الرجل كان إشكالية من إشكاليات طبقته الفكرية ورعيله الأدبي والعلمي والى حد أن مؤرخاً كبيراً وموسوعياً حذف اسم الرجل وسيرته من الموسوعة التي أشرف عليها وكتب عندما ذكر من شاركوا في تأبين المرجع السيد محسن الأمين قال : وألقى أحدهم هذه القصيدة.. وكان الحوماني قد اقتحم الإحتفال في بلدة شقراء في أربعين السيد وفرض نفسه على لائحة المتكلمين وألقى قصيدته رغماً، فكانت قصيدة الحفل ولكنها ووجهت بالصمت ما جعله في نهاية المقطع الأول يقول بعناد غريب : أعيد لنفسي، ومضى يعيد مقاطع القصيدة من دون استعادة !!!
ان الكتاب اكتشاف على ما فيه من شطحات ومن افكار على قليل أو كثير من السذاجة عندما تتعرض لمسائل الفكر السياسي والسياسة العربية والدولية المعقدة وعندما تبالغ في مديح ملك العراق والوصي على عرشه فيصل وعبد الإله بما لا ينطلي على الموالاة والمعارضة معاً، وإن كان الواقع الذي ترتب على الثورة المحقة أشد باطلاً من باطل العهد الملكي. وفيما عدا جزء يسير من الكتاب فإنه يمتاز كما كتبه الأخرى بأسلوب أدبي راق متمكن من مخزونه العربي والإسلامي تاريخاً ولغة وبلاغة مطلاً على الحداثة بشكل يدعو الى تصنيفه في المؤسسين لهذه الحداثة مقدماً على كبار عصره في هذا الشأن قريباً من مصاف العظيم الذي تبادل معه الحب والتقدير وكان هذا الكتاب رسائل اليه من العراق لم يتطلب الحوماني إجابات عليها لأنه كان كثير وسريع الترحال في العراق قبل البريد السريع والأنترنت. ما حرمنا الاستمتاع بردود عبد الله العلايلي على الحوماني. نقرأ في هذا الكتاب عراق الأربعينيات فنرى أن المتغيرات قليلة وأن كثيراً من هذا القليل هو قليل التغيير، إن لم نقل كثيراً وللأسف، ومع الأمل بالمستقبل الذي يلحّ على التغيير العميق الموصول بالثوابت التكوينية للعراق لا الثوابت المفتعلة والآتية من جهة الجهل والتخلف والإستبداد الذي شرع في الزوال ولكن حركة زواله بطيئة في المشهد العراقي.
ختاماً، ولأننا من دعاة التبصر العميق بالعلاقة بين الذاكرة العراقية والحكم العراقي وحلمنا بالعراق ولأننا من دعاة اكتشاف الوصلة العميقة والوثيقة بين الأجيال الكاتبة والشاعرة والباحثة والمبدعة، ولأننا نؤمن بأن نهر العراق الفكري والأدبي والنهضوي ما زال وسيبقى يجري بين النهرين واصلاً بين الماضي والحاضر والمستقبل وبين الشرق والغرب، وبين الماء والخصب وبين الذكريات المجرَّحة والمشهد القلق والغد الصعب المكلف والآتي دون ريب. ولأننا من دعاة فتح وعي وذوق وشهية الأجيال على جمال العربية في إبداعاتها وجماليات سرديتها التي أتقنها الحوماني، ولأن الحوماني من جيل مظلوم نقدياً إلا في حدود ما قام به البعض في حق البعض من الأعلام.. لذلك كله أقدمنا على نشر "بين النهرين" رغبة بمزيد من المعرفة بالكاتب وكتبه والمكتوب عنه من نخيل العراق الى عنائه وأوجاعه وحيويته الفياضة في ذلك الزمان والآن والى الأبد.
وإنه ليسعدني شخصياً أن أكتب هذا المدخل التصديري للكتاب أصالة عني ونيابة عن دار المدى التي أشعرتني باستجابتها السريعة لإحياء تراث محمد علي الحوماني بأني عضو فيها ذاهب معها الى مداها الثقافي الفسيح والمميز والهادف الى ترميم ذاكرة وجيلنا وتجديدها وبناء ذاكرة الجيل الذي أتى بعدنا والجيل الذي يأتي.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك