كتبت يارا أبي عقل في "المركزية":
يستعد العالم من غير كثير أسف لوداع عام يصح وصفه بالـ "مجنون". كيف لا وهو الذي أكد المؤكد الذي يدعي رجال السياسة ومتعاطوها أنهم يبذلون كل جهودهم لتجنبه، الصراعات العسكرية وإراقة الدماء. ذلك أنهم يطلقون التصاريح الرنانة اليومية داعين إلى إعطاء الأولوية للديبلوماسية والمساعي الحميدة، بدلا من تدفيع الشعوب ثمن خيارات متسرعة لا تأتي إلا على حساب الناس وأرواحهم.
لكن في زمن "صراع الجبابرة" لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. إنها المعادلة- القنبلة التي فجرها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في وجه العالم كله، خصوصا خصمه الأول في الحرب على الزعامة العالمية، الرئيس الأميركي جو بايدن، يوم الخميس 24 شباط 2022 مع إنطلاق الغزو الروسي لأوكرانيا. خطوة كبيرة تحضّر لها "القيصر" جيدا وحبس لها العالم أنفاسه مترقبا الساعة الصفر للصراع الذي حشدت له موسكو كل أنواع الاستعداد العسكري والسياسي والديبلوماسي، بذريعة أن روسيا لا تريد أن ترى كييف تدخل باب حلف شمال الأطلسي من الباب العريض، متكئة على دعم غربي واسع.
على أن أحدا لا يشك في أن وراء هذه الحجة الشكلية غير المقنعة، حسابات سياسية تلبي طموح الرئيس الروسي الذي لم يرف له جفن يوم قرر تعديل الدستور ليستمر في إحكام قبضته الحديدية على الكرملين لسنوات مقبلة. ذلك أن بعد 8 سنوات على ضم جزيرة القرم، يبدو واضحا أن بوتين يريد ضم أجزاء من الأراضي الأوكرانية إلى نفوذه، ما يفسر الحرب الشعواء الدائرة منذ ما يقارب العام. وفيما لا يزال حمام الدم سائلا بلا هوادة، نقطة ضوء وحيدة أفرزتها حتى اللحظة هذه الحملة العسكرية. حيث أنها كشفت للعالم النقاب عن واحد من أهم رؤساء الدول وأكثرهم شجاعة والتصاقا بشعبه وناسه في الأوقات العصيبة. إنه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الذي لم يترك بلاده تحت رحمة آلة الحرب الروسية، بل إن صوره وهو يساند جنوده على الجبهات اللاهبة اجتاحت المنصات الالكترونية. هكذا تحول زيلنسكي بحق إلى رجل العام 2022. خيار غير مفاجئ أكده التصنيف السنوي لمجلة "تايم" الأميركية، على اعتبار أن الرجل لم يترك بابا إلا وطرقه بحثا عن الدعم والمساندة. إلا أن ما قد يكون غاب عن باله يكمن في أن أحدا لا يخوض الحروب الكبيرة بدلا من أحد. تبعا لذلك، أحجمت الدول الكبرى عن خيار المشاركة المباشرة في القتال الميداني، مكتفية بمد مقاومي كييف بالأسلحة. غير أن كبار قادة العالم لم يقفوا مكتوفي الأيدي على الجبهة السياسية والاقتصادية على الأقل، بدليل أن كثيرا من الدول، على رأسها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي فرضت عقوبات على روسيا وكبار سياسييها، بينهم وزير الخارجية سيرغي لافروف، مع العلم أن فرنسا حاولت الدخول على خط وقف إطلاق النار، عبر لقاء جمع الرئيس ايمانويل ماكرون ونظيره الروسي في الكرملين. لكن هذه المرة، كانت الصورة أبلغ تعبيرا من كل كلام سياسي. فالذاكرة العالمية ستحفظ بالتأكيد لأجيال مقبلة صورة الرئيسين متحلقين حول طاولة يقاس طولها بالأمتار، في مشهد اعتبر إذلالا في حق ماكرون ودليلا واضحا إلى أن بوتين لا ينوي التراجع عن خطوة وضعت أوروبا والعالم في مواجهة واحدة من أسوأ الكوارث والأزمات الاقتصادية على وقع النقص الحاد في المحروقات والقمح (الذي تعتبر أوكرانيا أحد مصادره الأساسية)، ما دفع كثيرا من الدول إلى اتخاذ اجراءات تقنين نادرة لحفظ الطاقة وترشيد استهلاكها.
ولكن، إذا كانت أوكرانيا احتلت واجهة الأحداث العالمية، إلا أنها لم تكن الجبهة الملتهبة الوحيدة في العام 2022. ذلك أن أنظار العالم التفتت أيضا إلى ايران، حيث اندلعت احتجاجات عنيفة عقب وفاة الناشطة مهسا أميني في المستشفى تحت تأثير التعنيف الذي تعرضت له في سجون النظام الايراني، ما أدى إلى انفجار موجة غضب عارمة كانت المرأة الايرانية بطلتها الأولى، حيث نزلت النساء إلى الشوارع وعمدن إلى خلع الحجاب الذي فرض عليهن منذ نجاح ثورة الامام روح الله الخميني عام 1979، في تحد كبير وجريء لنظام الملالي وشرطة الآداب في البلاد. فما كان من السلطات إلا أن أدارت محركاتها القمعية في حق المتظاهرين (مع العلم أن احتجاجات كبيرة سبق أن هزت البلاد في خلال العامين الماضيين احتجاجا على أسعار المحروقات وانقطاع المياه عن بعض المناطق والأوضاع الاقتصادية ، في ظل تضييق الخناق الغربي على البلاد بسلاح العقوبات)، حتى أن حكما بالاعدام نفذ في تشرين الثاني الفائت في حق |أحد وجوه الحركة الاحتجاجية التي رأى فيها المرشد الأعلى علي خامنئي "مؤامرة" على بلاده. غير أن حالة الانكار هذه لم تمنع المحتجين من تسجيل هدف ثمين في مرمى الحكم، حيث أعلن المدعي العام في البلاد إلغاء شرطة الآداب، بعد شهرين ونصف الشهر على وفاة أميني التي سارعت السلطات إلى نفض يدها منها، معللة الوفاة بأسباب صحية.
وإذ انفجرت التظاهرات في ايران فيما تسعى طهران والمجموعة الدولية إلى وضع الاتفاق النووي على السكة مجددا، في محاولة للإفادة من النهج السياسي السلس الذي يعتمده الرئيس الأميركي الديموقراطي جو بايدن، مضت المملكة العربية السعودية (التي لطالما وسمت بكونها دولة دينية تطبق الشريعة الاسلامية بحذافيرها) في سياسة الانفتاح على الفن والموسيقى والأديان التي ينتهجها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. فكان أن استضافت المملكة كبار نجوم العالم العربي وأسمائه المضيئة، في موازاة القمة العالمية التي أعدت الرياض العدة لها، في أعقاب أزمة المحروقات التي سببتها الحرب على أوكرانيا. وقد كانت لافتة مشاركة الرئيس الاميركي جو بايدن شخصيا في القمة، مع العلم أنها أتت في عز الاستعدادات للانتخابات النصفية الأميركية، التي من شأنها أن ترسم أولى ملامح الاستحقاق الرئاسي المقبل في البلاد عام 2024، والذي لا شيء ينبئ بأنه سيكون أقل سخونة من انتخابات 2020، خصوصا أن الرئيس المثير للجدل دونالد ترامب أعلن خوضه معركة العودة إلى البيت الأبيض على الرغم من أن أميركا لم تخرج بعد من الصدمة الكبيرة التي أحدثها اجتياح أنصار ترامب مبنى الكابيتول في واشنطن احتجاجا على نتائج الانتخابات.
ولا بد من الاشارة هنا إلى أن الانتخابات المقبلة ستجري في غياب رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي عن الكابيتول، بعدما اتخذت قرارها بالاستقالة من المنصب الذي شغلته على مدى 20 عاما معاصرة عددا من الرؤساء، وقد تزامن القرار مع اعتداء تعرض له زوج بيلوسي في منزله ، في حادثة ذات طابع سياسي تضاف إلى سجل الهزات الأمنية التي رافقت الولايات المتحدة في خلال العام الذي نودعه بعد ساعات، يبقى أبرزها إطلاق النار الذي استهدف مدرسة في تكساس وأسفر عن مجزرة راح ضحيتها عدد من الأطفال والمعلمين، مع العلم أن السلطات نجحت في اعتقال الفاعل بعد ساعات على الجريمة. غير أن الاهتزاز الأمني الداخلي لم يحجب الضوء عن انجاز يحسب لادارة بايدن، التي تمكنت من تصفية زعيم تنظيم القاعدة |أيمن الظواهري بغارة استهدفت منزله في العاصمة الأفغانية كابول، بعد 11 عاما على مقتل الزعيم الأول للنتظيم أسامة بن لادن في انجاز اعتد به الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما طويلا.
أما على خط الحليف الأول لواشنطن في المنطقة، العدو الاسرائيلي، فلم يخل العام المنصرم من المحطات السياسية والانتخابية والأمنية. وفي السياق، لا بد من التوقف عند محطة مقتل الصحافية الفلسطينية الأميركية الزميلة شيرين أبو عاقلة (مندوبة قناة الجزيرة القطرية في فلسطين) برصاص الجيش الاسرائيلي في مخيم في جنين. وفي سيناريو بات مكررا ومستهلكا ومملا رفضت السلطات العسكرية الاسرائيلية الاعتراف بالجريمة، مكتفية بالكلام عن أن أبو عاقلة قتلت برصاصة "قد يكون جندي اسرائيلي أطلقها عن طريق الخطأ". وبينما أثار مقتل الزميلة الراحلة موجة ردرود شاجبة، أدارت تل أبيب الأذن الصماء للعالم الغاضب وبدأت تستعد لجولة انتخابية جديدة في بلاد استدعي مواطنوها إلى صناديق الاقتراع أربع مرات في 3 سنوات. لكن هذه المرة، أتت النتائج لصالح اليمين المتطرف وزعيم حزب الليكود بنيامين نتنياهو الذي شكل حكومة قد تكون الأكثر يمينية في تاريخ الدولة العبرية، ضم إليها وجوها من أبرز الأوفياء له والمتشددين في مواجهة تمدد النفوذ الايراني والمسار الدولي للاتفاق النووي.
وفيما تكرر مشهد وصول اليمين المتطرف إلى الحكم في ايطاليا، نمي هذا التوجه السياسي بضربة قوية بنكهة فرنسية، حيث خسرت زعيمة الجبهة الوطنية (اليمين المتطرف مارين لوبان السباق إلى الاليزيه في مواجهة الرئيس ايمانويل ماكرون، الذي نجح في تحقيق الفوز الثاني له بصعوبة فرضها تراجع شعبيته على وقع الحركات الاحتجاجية التي طبعت ولايته الأولى والأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد، والفشل السياسي الذي مني به ماكرون في كثير من الدول، على رأسها لبنان وأوكرانيا. على أن الرئيس الأصغر في تاريخ "الأم الحنون" لم يغير توجهه السياسي العام من حيث إعطاء الأولوية للحوار مع طهران، بينما كان النفوذ الايراني في المنطقة العربية يواجه حصارا سياسيا، خصوصا في العراق، الذي سجل تطورات مهمة ليس أقلها تعيين رئيس جديد للوزراء، في أعقاب إقدام المرجع الشيعي مقتدى الصدر على إعلان انسحابه من المشهد السياسي في البلاد، وهو ما قاد أنصاره إلى اقتحام البرلمان، ما ساهم في إضفاء مزيد من التعقيد على الصورة العامة.
\وكما في المشرق العربي، كذلك في المغرب العربي حيث لن يترك العام الراحل صورة وردية. بدليل الأزمة السياسية التي سجلت في تونس، مهد الثورات العربية. ذلك أن بعد 11 عاما على إطاحة حكم الديكتاتور زين العابدين بن علي، ظهرت إلى العلن النزعة السلطوبة لدى الرئيس قيس سعيّد الذي عدل الدستور بشكل يتيح له تعزيز الاحكام بقبضة من حديد على السلطة والقرار، في ظل أزمة اقتصادية قادت الناس إلى الشارع. وفي محاولة فاشلة لتهدئة النفوس المشحونة منذ ما سمي "إنقلاب تشرين 2021"، دعا الرئيس التونسي إلى انتخابات عامة قاطعتها الغالبية العظمى من الناس، الذين لبى 11% فقط منهم الدعوة إلى صناديق الاقتراع، بما يفتح الباب التونسي على مجهول سياسي يبدو مديدا. وفي الموازاة، كان الجاران الجزائري والمغربي يمعنان في إطالة أمد أزمتهما السياسية والديبلوماسية، ذاهبين إلى حد إغلاق الحدود المشتركة بينهما. إلا أن هذا لا ينفي أن الحظ ابتسم كثيرا للرباط (التي شاركها العالم حزنها على وفاة الطفل ريان الذي وقع في إحدى الحفر واستحوذت محاولات انقاذه على اهتمام عالمي نادر) وللمنتخب المغربي في إطار كأس العالم الذي طال انتظاره في نسخته القطرية، وهي النسخة العربية الأولى.
ذلك أن المغرب كان الدولة العربية الأولى التي تصل إلى نصف نهائي البطولة في التاريخ. غير أن هذه ليست المفاجأة الوحيدة التي حملها المونديال القطري. ذلك أنه شهد فوزا تاريخيا للمنتخب السعودي على نظيره الأرجنتيني في دوري المجموعات، قبل أن تخرج المملكة من المنافسة، شأنها في ذلك شأن أكبر الفرق، أولها ألمانيا والبرازيل والبرتغال، التي لم يكن سهلا على نجمها كريستيانو رونالدو تقبل الخسارة، فيما كان خصمه الأول على الكرة الذهبية لوينيل ميسي يقود بلاد التانغو إلى النهائيات التي نافست فيها الأرجنتين المنتخب الفرنسي بقيادة نجمه الأول مبابي, إلا أن الأخير لم يظهر روحا رياضية في تقبل الخسارة ولم يعر كثير اهتمام لمحاولات الرئيس ماكرون لمواساته عقب المباراة. وقد انتشرت صور الرجلين على تويتر. لكن هذا لم يكن الحدث الوحيد الذي حفلت به المنصة هذا العام. كيف لا وقد شكلت مع عصفورها الأزرق الحدث لمجرد الكلام عن نجاح رجل الأعمال الأميركي الون ماسك في الاستحواذ على تويتر، بفعل صفقة تقدر بمليارات الدولارات، قبل أن يعود الرجل ويعلن الاستعداد للتخلي عن منصبه الجديد.
في المقابل، شهد العالم تسلم الأمير تشارلز منصبه الجديد على رأس العرش البريطاني بعد وفاة الملكة اليزابيت الثانية في أيلول الفائت في لحظة خافها البريطانيون كثيرا، مع العلم أن الملكة الراحلة كانت محبوبة جدا. بدليل أن مئات الآلاف من البريطانيين شاركوا في الاحتفالات باليوبيل البلاتيني لتوليها الحكم قبل 70 عاما، في ظهور شعبي كان الأخير لها. على انها عادت وظهرت في صورة التقطت قبل يومين من وفاتها في خلال لقائها رئيسة الوزراء السابقة ليزا تاس التي عينت خلفا لبوريس جونسون، ذي السجل الحافل بالفضائح والممارسات الفاسدة. غير أن تاس عادت واستقالت من منصبها على وقع ضغوط مرتبطة بمقاربتها للأزمات الاقتصادية، تاركة 10 داوينغ ستريت لخلفها ريتشي سوناك (وزير المال السابق من أصول هندية).
وعلى عكس الملكة إليزابيت، لم يحظ الرئيس السيرلانكي بتأييد شعبه، بل إن هذا الأخير قدم نموذجا ثوريا رائعا على الفساد والعقم السياسي، إلى حد أن الاحتجاجات في العاصمة كولومبو أطاحت الرئيس ودفعته إلى الهرب وطلب اللجوء السياسي. خطوة نادرة قد لا نرى الحكام العرب يقدمون عليها، مفضلين الركون إلى أساليب القمع كما هي الحال مع الرئيس المصري عبد ىالفتاح السيسي الذي تواجه بلاده اتهامات بانتهاك حقوق الانسان وحرية التعبير، تماما كما الجار السوري القريب بشار الأسد، ونظيره التركي رجب طيب أردوغان (الذي اهتزت بلاده العائدة بقوة إلى الميدان السوري بانفجار هز اسطنبول قبل أسابيع). على أن هذا لا ينفي أن كلا من القاهرة ودمشق التقتا عند نقطة فقدان أسماء كبيرة من سجلهما الفني بينها الممثل المصري هشام سليم الذي خسر المواجهة مع السرطان، فيما باغت الموت الممثلة السورية القديرة أنطوانيت نجيب (الشهيرة بدور نعيمة في مسلسل الفصول الأربعة) ومخرج مسلسل باب الحارة الذي سمّر الجماهير العربية أمام الشاشات لسنوات، بسام الملا. على أن لعنة الرحيل لم تكن فنية حصرا بل رياضية و أدبية وسياسية أيضا، بحيث ودع العالم أمس أسطورة كرة القدم العالمية، اللاعب البرازيلي بيليه، فيما بكى العراق الشاعر السياسي مظفر النواب الذي كال كثيرا من الانتقادات لحكام عالم عربي قد يكون شذ عن قاعدتهم الشيخ زايد، مؤسس دولة الامارات التي غاب عنها هذا العام، بالتزامن مع مقتل رئيس الحكومة اليابانية السابق شينزو آبي، بينما كان في خضم حملة انتخابية.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك