إذا كانت هزيمة 67 شكلت انطفاء وهج الثورات التي جاءت بآلية الانقلابات العسكرية في المنطقة العربية، فإنّ الوقت الحاضر يدون لمرحلة تجسد استعادة هذه الثورات لوهجها، ولكن في هذه المرحلة تندلع بآلية شعبية على النحو الذي حصل في أكثر من بلد عربي، الأمر الذي يعني أن الثورة من هذا النوع ستعمد الى إحداث تغيير جذري في النظام، على عكس ثورة الانقلاب العسكري التي أخفقت في القيام بعملية الإصلاح المتدرج والبطيء، بعدما تركت الفساد يستشري في مفاصل نظامها، وكان هذا العامل يقف وراء اضطلاع الشعب بمهمة الثورة.
الثورة في مفهومها، تعني إحداث التغيير الجذري والشامل على شكل قفزة وانقلاب، أي هي هيكلية تأسيسية لنظام جديد، وقد يأتي كل من مفهومي الإصلاح والثورة بناء على نظريات فلاسفة الاجتماع الذين رأوا أن هناك تعارضاً بين الإصلاح والثورة في معالجة شؤون المجتمع، وقد انبرى منظرو الإصلاح إلى تبني عملية إصلاح المجتمع من خلال استراتيجية تعتمد على عملية التغيير البطيء والمتدرج، وكان اميل دوركايم الفرنسي وماكس فيبر الألماني وباريتو الايطالي على رأس منظري الإصلاح، في حين أن منظري الثورة كارل ماركس وفريدرك انجلز يطالبان بعملية انقلاب على الأوضاع القائمة بهدف إحداث التغيير الكامل.
لا شك أن عملية الإصلاح في المنطقة قد تعثرت واضمحلت على الرغم من إعلانها في أكثر من بلد، حيث أدى ذلك الى حدوث جمود في العملية السياسية في البلدان التي روجت في إعلاناتها عملية الإصلاح، وتحول هذا الجمود الى ما يشبه حالة متراكمة من اليأس والإحباط لدى الشرائح المتضررة من النهج السلطوي السائد، والذي انحصر في منافعه الاقتصادية على نخبة غنية، باتت تفيد هذا النهج وتستفيد منه، خصوصاً وأن هذه النخبة هي من نتاج وإفرازات هذا النهج السلطوي بحكم عوامل وظروف تتعلق بالمصلحة الاقتصادية المتبادلة والحصرية، وعلى حساب الشريحة الأكبر التي تتمثل بطبقة الفقراء.
إن الثورة بآليتها الشعبية وعلى النحو الذي جرى، إنما قامت بفعل أسباب طبقية، هي من استيلاد النهج السلطوي المزمن، والذي ما كان له أن يمعن في أدائه هذا، لو كان ذا نهج ديموقراطي تداولي للسلطة، بيد أن النظم التي انتفضت عليها الشعوب أخيراً، إنما كانت نظماً ديكتاتورية وشمولية وتوليتارية، وهي لم تكن على تماس بالشريحة الأكبر (الفقراء) في بلدانها، وبالتالي فقد واجهت انتفاضة شعبية ديناميكية ذات بعد طبقي اقتصادي، وصحيح أنها طالبت ودعت إلى هدف سياسي عبر تغيير النظام، لكنها كانت بدافع طبقي اقتصادي، والدليل أن قوى المعارضة السياسية في البلدان التي تأثرت فيها الشعوب، لم تستطع تجيير هذه الثورة إليها أو حتى الادعاء بالوقوف وراءها.
وإذا كانت منطقتنا مشهودة بالنظم الشمولية المعمرة، فإن مثل هذه النظم في العالم قد تغيرت وأصبحت من مخلفات الماضي، ويعود لأواخر حقبة الثمانينات المد الجارف في سقوط الكثير من النظم الشمولية، مثلما حدث في بولندا ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا وغيرها من بلدان أوروبا الشرقية، كما أن الاتحاد السوفياتي قد انفصلت عنه خمسة عشر جمهورية، ارتأت أن تتبنى نظاماً بعيداً عن الشمولية وقريباً من الديموقراطية، وهذا الأمر يشمل نظماً شمولية أخرى في أميركا اللاتينية وفي آسيا وافريقيا، ولم يتبق من هذه النظم سوى في كوبا وبورما وكوريا الشمالية، ويبدو أن منطقتنا العربية تلمست طريقها في هذا المضمار.
من الواضح أن الثورات الشعبية على النحو الذي جرى ويجري في الوقت الحاضر، تواجهها تحديات كبيرة، خصوصاً وأن متصدري ومنظمي هذه الثورات، هم من غير محترفي السياسة، وهؤلاء يمثلون فئات عمرية شابة، مشحونة بالنقمة والغضب، من جراء تهميشها وتعطيل دورها، لا سيما في الجانب المعيشي والاقتصادي، الذي مثلما أسلفنا كان الدافع المهم في اندلاع الثورة.
وعليه، فإنّ مفهوم الثورة بعنوانها التغييري في منطقتنا على نحو خاص، قد لا يتحقق على نحو شامل وجذري، لأن مثل هذا التغيير لا يمكن له أن يصل إلى مطافه الأخير، وفقاً لما كان يتصوره ماركس وانجلز، ربما يتم تغيير رأس النظام الشمولي وتغيير أشخاص يمثلون أركان النظام في موقع هنا وموقع هناك، وتتم معالجات وترقيعات بشكل من الديموقراطية، لكن في المحصلة النهائية، تظل أسس وركائز هذا النظام ثابتة بشكل أو بآخر، من واقع أن الثوار لا يحملون أي استراتيجية واضحة لنظام بديل هنا أولاً، وثانياً أن منطقتنا بتنوعها الديني والمذهبي والقبلي والطائفي والسياسي، لا يمكن لها أن تحظى بنظام ديموقراطي وفق نموذج الديموقراطية الغربية.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك