لعلها من المرات غير المسبوقة التي تجد فيها القوى السياسية اللبنانية نفسها متساوية تماما أمام خطر المجهول العربي الزاحف بقوة على الانظمة بما يهدد بتقويض كل القواعد القديمة التي كانت تلعب ادوارا حاسمة في توجيه المصير اللبناني. واذا كان من دلالة شديدة التعبير على استشعار هذه القوى لخطورة هذا المجهول، فهي تبدو ناطقة بكل الحذر المكتوم لدى الجميع حيال اقتحام الاضطرابات الغاضبة لمدن سورية منذرة باتساع الموجة الى اقرب الدول العربية واشدها التصاقا بالوضع اللبناني وتأثيرا عليه.
في هذا السياق الطارئ والمستجد، مع كل الغموض والمجهول الذي يحمله، تواجه القوى اللبنانية اختبارا لم تعرف مثيلا له من قبل، ولن يمر وقت طويل لتبدأ مضاعفات هذا الاختبار بالظهور تباعا سواء في الارباك الذي يفرضه نمط التعامل مع تطورات ضخمة مخيفة بهذا الحجم او في الاضطرار الى لملمة الوضع الداخلي وتكيفه مع هذه المتغيرات.
على ان الواضح حتى الآن ان التعبير عن الارباك اللبناني يتمركز خصوصا عند الانسداد الطويل في تأليف الحكومة. في ذلك يمكن بعد شهرين من تكليف الرئيس نجيب ميقاتي تلخيص ازمة التأليف بمعادلة مستقاة من قواعد الصراع الداخلي، وهي ان فريق 8 آذار نجح في اسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري واخفق في تحويلها فورا الى مكسب سياسي ناجز اذ لم يتمكن حتى الآن من اقامة البديل الحكومي. بل اكثر من ذلك، فان فريق الاكثرية الجديدة مهدد بفرز من داخله على خلفية تبدل في حسابات بعض قواه واطرافه من جراء التمايزات الناطقة بين سوريا وايران.
بطبيعة الحال، تستشعر قوى 14 آذار بازاء تعثر خصومها بلحظة تفوّق من شأنها ان تعوض لها تداعيات الضربة التي تلقتها في كانون الثاني الماضي. ومع ذلك لا تسمح المعطيات الخطيرة المتصاعدة من المتغيرات العربية عموما والسورية خصوصا لهذه القوى ايضا ان تقيس مدى تقدمها او تحقيقها لنقطة في مسار الصراع الداخلي في معزل عن انتظار الانعكاسات الخطيرة التي بدأ لبنان يتلقاها من جراء كونه عالقا بين حكومة تصريف الاعمال وحكومة قيد التأليف المتعثر، علما ان نقطة الخطر المباشرة والاساسية التي تعني هذه القوى كما قوى 8 آذار والاكثرية الجديدة تهدد الجميع في المقتل الاقتصادي والاجتماعي الآخذ بالتضخم التصاعدي.
ومعنى ذلك بوضوح تام هو انه مثلما صعق العالم بأسره ولا سيما منه العالم العربي بانفجار الثورات التي تنذر بقلب وجهه رأسا على عقب في اقل من شهرين، فإن القوى اللبنانية قاطبة صعقت بتبدل حسابات اللعبة الداخلية رأسا على عقب ايضا. فلا قوى 8 آذار تقوى على تشكيل حكومة من دون تدخل سوري مباشر بما يعرضها لانكشاف غير مسبوق، ولا قوى 14 آذار تقوى على توظيف انكشاف خصومها امام لحظة عربية شديدة الخطورة لا تعرف معها اثمان المزالق التي قد يدفعها لبنان.
واذا كان من مفارقة ساخرة يمكن استخلاصها من هذه المعادلة، فهي ان اطار حكومات الوحدة الوطنية، او الائتلافات السياسية، كان يصلح تماما لظروف كهذه وليس لاي ظروف تسووية هشة اخرى. كما ان طاولات الحوار ما كانت تصلح لظروف تأسيسية اكثر من هذه الظروف. في حين ان الواقع الراهن يشهد انهيارا غير مسبوق في العلاقات بين القوى اللبنانية على نحو لم يعد معه ممكنا اي "تجسير" بين فريقي النزاع، كما لا يبدو معه ممكنا اي رهان على احياء تلك "العادة المرضية" التي لا تجمع القوى اللبنانية إلا بمبادرات خارجية.
ثمة من يحلو له ان يزين الواقع اللبناني بأنه لا يزال الاقل خطرا من سواه لأن لبنان لا يبدو عرضة لاضطرابات شبيهة بما يجري في محيطه. ولكن جبل الكلفة الباهظة لن يلبث ان ينكشف مع الانتظار الطويل. فليس استحقاقا عابرا ان يعلق لبنان بأسره وينكشف على عجز عن حكم ذاته حين يتفرق من حوله كل الذين عوّدوه وعوّد نفسه على رسم مصيره على ايديهم.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك