نجت مصر، ومعها منطقة الشرق الأوسط بمجموعها، من كارثة محقّقة، لو أنّ اللجنة المشرفة على الإنتخابات الرئاسية التجأت إلى الغشّ والتزوير وغامرت في إعلان أحمد شفيق رئيساً. وطبعاً لم نكن بحاجة إلى ذلك لإكتشاف أنّ العديد من المتحمّسين للربيع العربيّ في الأشهر الماضية عادوا إلى المربّع الأوّل في الأسبوعين الأخيرين من خلال انزلاقهم إلى تأييد شفيق، بحجّة أنّه حامي الدولة المدنية، من الإخوان المسلمين. هؤلاء تحديداً يبتسم لهم التاريخ ابتسامة صفراء.. ونهائية.
ليس معنى ذلك أنّ الإخوان كان بمستطاعهم اسقاط سلطة العسكر في الشارع، وفي غضون أيّام، لو غامر العسكر بتزوير النتيجة على طريقة خامنئي ونجاد. فالأخوان في مصر لم ينفعهم حجمهم الكبير في نيل السلطة طيلة العقود الأخيرة، لأنّهم لا يتمتّعون بمؤهلات انقلابية حقيقية، والجماعة ليست حزباً ثورياً بالمعنى الإنقلابيّ للكلمة، إنّما فقط بالمعنى التعبويّ، كمجتمع مدنيّ دعويّ مضاد.
لكن الأهمّ هو أنّ القطوع الذي نجت منه مصر هو أنّه لو جرى التلاعب بنتائج الإنتخابات الرئاسية، لخرج الكباش المحموم بين العسكر والإخوان عن مسار المأسسة الذي بدأ يسلكه منذ "الإستفتاء" على التعديلات الدستوريّة، ما يمثّل ارتداداً إلى مناخات ما قبل الربيع العربيّ، يوم كان الطرفان، العسكر والإخوان، يقرّان موضوعيّاً بأنّهما القوتان الأساسيّتان، إنّما يمارسان هذا التعايش في شكل رئيسيّ خارج إطار المؤسسات، وضمن المؤسسات في شكل مجتزأ وملتوٍ.
وتفادي هذا المنعطف كان له ثمنه، وثمنه المدويّ هذه المرة: فكل التدابير الإحترازية، أو الإبتزازية، أو الإنفعالية، المتخذة بوجه وصول محمد مرسي إلى سدّة الرئاسة، ابتداءً من حلّ مجلس الشعب، وصولاً إلى استصدار الإعلان الدستوريّ المكمّل، ناهيك عن عنتريات أحمد شفيق في اليومين الماضيين، لم تجدِ نفعاً، ولم تحل دون وصول مرسي إلى الرئاسة، لكن ثنائية العسكر والإخوان جدّدت نفسها بتقدّم نوعيّ لجماعة الإخوان، وتراجع كبير للعسكر. بمعنى معين، تنتقل هذه الثنائية من مرحلة "إخوان وعسكر تحت قيادة العسكر" إلى مرحلة "إخوان وعسكر تحت قيادة الإخوان". هذا الإنتقال صعب، ومستقبل الثورة المصرية يتوقّف على قدرة شبابها في التعامل مع هذا الإنتقال الصعب.
طبعاً، هناك البعض بين "شباب الثورة" ممن يهوى تبسيط المسائل ليقول انه، ابتداءً من هذه اللحظة هناك سلطتان قمعيتان، واحدة للعسكر وثانية للإخوان، وهذا صحيح من ناحية، لكنه مضلّل من ناحية أخرى، ويكشف عن ذهنية لا قدرة لها على الدخول إلى معاني السياسة.
فمصر، منذ ثورة 25 يناير، تتنازعها: فلول الحزب الوطني، المجلس العسكري، شباب الثورة، التيار الديني بإخوانه وسلفييه، الأقلية المسيحية. وتتفاوت هذه الكتل في درجة التعبير السياسيّ عن نفسها، تنظيمياً وخطابياً وبرنامجياً، مثلما تتفاوت في وزنها ودورها. لكنّ التيّار الإسلاميّ، وتحديداً الإخوانيّ، هو الأكثر قدرة في التعبير عن نفسه كقوّة سياسية، مثلما أنّ العسكر، ومن خلال صيغة المجلس العسكريّ، هم أيضاً يأتون في المرتبة الثانية في القدرة على التعبير عن نفسهم كقوّة سياسيّة. وكل من الإخوان والعسكر في موقع ملتبس. الإخوان ليسوا روح ثورة 25 يناير، لكن انتقال هذه الثورة من ميدان التحرير الى كافة ربوع مصر ما كان ممكناً لولا الإخوان. أما المجلس العسكري فلا هو مجلس قيادة الثورة، كما في أيّام الضباط الأحرار، ولا هو مجلس قيادة الثورة المضادة في كل المراحل. في المقابل، فإنّ "شباب الثورة" ولأسباب عديدة، موضوعية وذاتية، هم الأبعد عن تحويل حيثيتهم إلى قوّة سياسيّة، علماً أنّهم كانوا الأقرب إلى ذلك يوم اعتصموا في الميدان مجدّداً عشية الإنتخابات التشريعية، لكنّهم بعد ذلك آثروا المكابرة التبسيطية. فإذا كانوا محقين تماماً في اعطائهم الأولوية أولاً لمواجهة فلول الحزب الوطني، ثم مواجهة احتكار سلطة العسكر للمرحلة الإنتقالية، إلا أنّهم افتقدوا للإحاطة الشاملة، التي شرطها الإقرار بأنّ من هم في ميدان التحرير يبقون هامشيين في مقابل ثنائية "العسكر والإخوان"، وأنّ هامشيتهم قد تتمكّن في لحظات معينة من احتلال المشهد الأمامي، لكنه لا يمكنها أن تحافظ على هذا المشهد الأمامي على طول الخط، وسرعان ما يجرّها الارتداد الى الصفوف الخلفية الى انكار الوقائع بدلاً من التكيّف مع بعضها والسعي لتغيير بعضها الآخر.
فالحماسة الثورية في التحرّك لا تكتمل إلا بالبرودة الثورية في التحليل، وهو ما يعني ضرورة وضع استراتيجية لانتقال شباب الثورة من الهامش إلى المتن، بدلاً من انكارهم للواقع، واعتبارهم أنّهم يشكلّون المتن (وهو وهم عادت وانعشته ظاهرة حمدين صباحي، ناهيك عن وهم اسمه "الأكثرية الصامتة"). ثمّ أنّ "الإنحراف اليسارويّ" لشباب الثورة يخفي انحرافاً يمينياً أعمق عندهم: تمسّكهم بـ"الشرعية الثورية" لميدان التحرير فيه شبهة ادارة الظهر للريف، وللقضية المركزية في مصر منذ قرنين، أي المسألة الفلاحية.
الكلام في هذا يطول. لكن المطلوب أن يبدأ، وهو ما لم يحصل بعد، ولن يحصل طالما بقينا في ثرثرة بين من "ينحني للصناديق" وبين من "يبكي على العلمانية" (كما لو كانت العلمانية معمولاً بها في مصر) وبين من "يراهن على فشل الإخوان"، وليس بالضرورة أن يفشلوا، ولا المطلوب أن يفشلوا. المهم الآن ان مصر والمنطقة تفادت كارثة التلاعب بالنتائج لإعادة عقارب الساعة، بشكل يائس، إلى الوراء. يوم 24 حزيران 2012 هو بهذا المعنى مكسب أساسيّ لذاكرة الربيع العربيّ.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك