كتب المحامي أمين عبد الكريم:
لم يكن يوم الثامن والعشرين من شهر أيلول الجاري يوماً عادياً على العالم عموماً وعلى اللبنانيين خصوصاً. فالكلّ كان يلتقط أنفاسه لمعرفة مصير السيد حسن نصرالله قائد المقاومة الاسلامية في لبنان، بعد أن أعلن جيش العدو الاسرائيلي عن استهدافه بعدة غارات اثناء تواجده في مركز حزب الله الرئيسي بواسطة صواريخ متطورة خارقة للتحصينات، حيث تبين فيما بعد ان السيد نصرالله قد استشهدَ والتحقَ برفاقه.
فمنذ ان فتح حزب الله جبهة الاسناد بوجه العدو الاسرائيلي دعماً لجبهة غزة، بدأت اسرائيل حربها الاستخباراتية على عناصر وكوادر الحزب، حيث راحت تستهدفهم وتصفيهم واحداً تلو الآخر من خلال رصدهم ومن ثم قصفهم بالمسيرات وبطائراتها الحربية.
ففي بادئ الامر، لم يكن الموضوع يثير الاستغراب كثيراً، اذ أنّ حزب الله يدرك تماماً انه يقاتل أقوى جيش نظامي في المنطقة هو من أقوى جيوش العالم، حيث يمتلك الجيش الاسرائيلي تقنيات هي الأكثر تطوراً خاصة في مجال المراقبة والتجسّس، كما أنه يمتلك ترسانة أسلحة لا مثيل لها خاصةً تلك الذكية والمتطورة، والتي زودتها بها حليفتها الولايات المتحدة الأميركية على مر السنين.
غير أنه وبالرغم من امتلاك جيش العدوّ للقدرات القتالية والاستخباراتية العالية وبالرغم من تفوقه التكنولوجي، الا انه لم يكن ليستطيع تحقيق أهدافه بهذه الدقة العالية لولا وجود تعاون بشري على الأرض يزوده بمعلومات دقيقة عن كوادر الحزب والمسؤولين الميدانيين فيه.
في خطابه الأخير، ألمح السيد نصرالله عن وجود جواسيس ضمن صفوفه، كما ألمح الى أن هذه الجواسيس ليست برتب متدنية في الحزب، بل هي بصفوف قيادية، حيث قال أمام الجمهور أنّ الضربة المقبلة للعدوّ ستكون موجعة ومؤلمة له ولن يعرف بتفاصيلها الا الحلقة الضيقة بالحزب.
ان كلام السيد نصرالله هذا، يؤكد ويدل على أنه يعلم تماماً انه ثمة جواسيس حوله، وقدحاول كشف هوية "القائد الجاسوس" كلما وقع اغتيال لقيادي من الصعب تحديد تحركاته، ما دفع بالحزب أخيراً إلى نصب كمين للاستخبارات الاسرائيلية حيثُ تعمدَ السيد نصرالله تسريب معلومة خاطئة على مستوى قيادة الحزب لمكان تواجد القائد الميداني علي كركي الذي استلمَ أخيراً عمليات حزب الله بعد اغتيال فؤاد شكر. وبالفعل قامت الطائرات الاسرائيلية بشن عدة غارات على مبنى سكني يقع في الضاحية الجنوبية لبيروت بعد أن تمّ ايهام الاستخبارات الاسرائيلية بأنّ على كركي موجود داخل المبنى. غير أنه تبين لاحقاً أنّ هذه المعلومة المسربة لم تكن سوى فخّ للايقاع بالجاسوس داخل صفوف الحزب وعلى مستوى قيادي.
فكلّ هذه الخروقات "غير الطبيعية" تشير إلى أنّ الخرق لم يكن أمنياً وعسكرياً بحت، بل يدلّ أيضاً على أنّ هناك ثمّة خرق وتغيير على المستوى السياسي الايراني وانعطافة ايرانية نحو الولايات المتحدة الأميركية، بدأت مع وفاة الرئيس الايراني السابق ابراهيم رئيسي بظروف غامضة بعد سقوط مروحية كانت تقلّه من أذربيجيان حيث كان برفقته وزير خارجيته حسين أمير عبداللهيان. فالمراقبون المحليون والغربيون استغربوا حينها سبب عدم توجيه ايران أصابع الاتهام للكيان الصهيوني وعدم اتهامه بتدبير حادث سقوط طائرة الرئيس الايراني، حيث سارع المسؤولون الايرانيون الى تسريب معلومات أنّ سبب سقوط المروحية الرئاسية هي ظروف جوية سيئة مستبعدين تماماً أي فرضية أخرى مثل العمل التخريبي او عملية اغتيال ارتكبها الموساد الاسرائيلي كما جرت العادة في ايران.
كما اننا لم ننس بعد كيف ردّت ايران منذ أشهر قليلة على القصف الاسرائيلي الذي استهدف مبنى ملحق بالقنصلية الايرانية المجاور للسفارة الايرانية في دمشق والذي أدى الى وفاة القائد في فيلق القدس العميد محمد رضى زاهدي وستة ضباط آخرين من الحرس الثوري الايراني.
فبعد أن تعهد علي خامنئي المرشد الأعلى بردّ قاس على الهجوم الاسرائيلي على مبنى القنصلية في دمشق، شنّ الحرس الثوري ضربات وهجمات جوية محدودة بطائرات مسيّرة وعدد من الصواريخ البالستية بالتنسيق مع المقاومة الاسلامية في العراق ولبنان اليمن، حيث نسقت ايران مسبقاً مع الولايات المتحدة الاميركية على نوع وحجم وتوقيت الردّ الذي لم يسفر عن خسائر بشرية في اسرائيل. فالضربات الايرانية كانت ذات طابع سياسي ورمزي لحفظ ماء الوجه.
إذاً، من الواضح أنّ ايران بدأت مساراً سياسيا جديداً مع رئيسها الجديد مسعود بزشكيان المنفتح على الدول الغربية وصديق "الشعب الأميركي" على حدّ قوله. وبينما الرئيس الايراني موجود الآن في نيويورك يفاوض المجتمع الدولي على برنامج بلاده النووي ويدفع باتجاه رفع العقوبات عن ايران، ها هي الأخيرة تترك لبنان وشعبه وحدهما لمصيرهما في مهب ريح المفاوضات والعروضات يتلقون ضربات قاسية وقاتلة من العدو الاسرائيلي ويدفعون ثمن المناورات الايرانية على طاولة المفاوضات.
وأخيراً وليس آخراً، لا ينتظر أحداً الرد الايراني على اغتيال السيد حسن نصر الله، فبالتأكيد أنّ ايران لن تثأر ولن تقوم بأكثر ممّا قامت به بعيد اغتيال الولايات المتحدة الأميركية لقائد فيلق القدس في الحرس الثوري الايراني قاسم سليماني في العراق، حيث اكتفت ايران وقتذاك بقصف قاعدتين أميركيتين في العراق لم تسفر عن جرح أي عسكري أميركي.
فالثأر لدم أي قائد أو مواطن لبناني يجب أن يكون عبر التضامن الوطني والالتفاف حول الدولة اللبنانية ومؤسساتها، وبالاسراع لانتخاب رئيس جديد للجمهورية يتمتع بحس وطني وبإجماع بعيداً عن سياسة ومصالح أي دولة تاجرت من هنا أو تخاذلت من هناك. والتجارب الماضية والتاريخ خير دليلان على ذلك.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك