من ضمن سلسة أعماله ونشاطاته، يسعى مركز الشرق الأوسط للأبحاث والدراسات الإستراتيجية (MEIRSS) دائمًا إلى تثقيف الطلاب والباحثين وإلى تنشئتهم على المفاهيم الأساسية التي يتمحور حولها لبنان، في سبيل "كتابة فصل جديد لفهم أفضل للبنان"، انطلاقاً من دولة القانون والدستور ونشر الديمقراطية،في توصيف علمي وموضوعي للأمور وتحليلها، طبعاً تحت إشراف مجموعة من الإختصاصيين الأكاديميين ذوي الخبرة في هذا المجال.
وفي هذا الإطار، كان آخر مشاريع المركز أن يحضّر مكتبة واسعة ومتنوّعة، حيث يصبح بإمكان أي طالب أو باحث أكاديمي أن يستفيد منها في إعداد التقارير والأبحاث. فسنحت الفرصة المهمّة للمركز لأن يتلاقى مع المفكّر اللبناني "أنطوان نجم"، الذي قدّم بدوره جزء كبير من مكتبته الشخصية إلى مركز الشرق الأوسط.
وبعد استلام هذه المجموعة الثمينة والمؤلفة من كتب ومنشورات، والمتنوّعة ما بين كتب فكرية وفلسفية ودينية وسياسية وتاريخية، نظّم مركز الشرق الأوسط يوم السبت الماضي نشاطاً لإطلاق "مكتبة أنطوان نجم" في مقّره في جونيه، بحضور الأستاذ أنطوان وقرينته وابنته، وبحضور مدير مركز الشرق الأوسط الدكتور ايلي الياس، وبمشاركة مجموعة من طلاب وأساتذة.
استهلّ الياس اللقاء بالترحيب الشديد بالحضور، شاكراً في المقدّمة أنطوان نجم على قبوله بتقديم قسمٍ "إرثه الفكري". نجم البالغ من العمر 94 عاماً، قضى معظم حياته ما بين التعليم المدرسي والجامعي، إلى جانب انخراطه في الشأن السياسي واعتناقه للفكر اللبناني المسيحي. هو مفكّر لبناني معروف بوطنيّته وتمسّكه بالقضية اللبنانية. عايش نجم أصعب المراحل في تاريخ لبنان المعاصر، فكان على إدراك وإلمام بأهمية معالجة القضايا المطروحة في كل مرحلة بحسب ظروفها، لفهمها وفهم لبنان كما يلزم.
هو الذي انطلق بنضاله السياسي في حزب الكتائب اللبنانية، إلى جانب الشيخ بيار الجميّل، ليصبح ركيزة أساسية للشيخ بشير الجميّل في حقبته وخاصّة عند انتخابه رئيساً للجمهورية. يقول بدوره نجم "أصبحنا أنا وبشير شخصاً واحداً لا ننفصل عن بعض في العمل السياسي وبتبادل وجهات النظر والآراء، أعطيه الحريّة وأسمح له حتّى بانتقاد آرائي". وفي العام الأخير عُيّن الأستاذ أنطوان نجم في الهيئة التنفيذية في حزب القوات اللبنانية، بقرار من رئيس الحزب.سجّل نجم مذكّراته الطويلة وأوصى أن تُنشر فيما بعد، مشيراً إلى أهمية ما سيتركه من إرث للأجيال القادمة.
ماذا يعني لبنان، وماذا تعني القضية اللبنانية؟
وفي خضم اللقاء، فُتح المجال أمام الحاضرين لطرح أسئلة على الأستاذ أنطوان، فكان سؤال أحدهم عن قيمة لبنان وقضيته. ليأتي جواب نجم "أن لبنان هو العطاء الذي منحنا إياه ربّنا في هذا الشرق، إنه نعمة إلهية أسكنتها في عقلي ونفسي، آمنت بلبنان دون أن أفكّر مرّة واحدة بالهجرة من هذا البلد، وآمنت بدور المسيحيين فيه وخاصّة الموارنة لأن لهم الإرتباط الوثيق في هذه الأرض المسمّاة لبنان. حتّى جوارنا العربي والإسلامي، يهتمّ ويتعلّقبسبب وجودنا في هذا الشرق".
إلى أي مدى يمكن للمواطن اللبناني أن يمارس النشاط السياسي والعلمي والفكري، لا سيّما في ظلّ الأوضاع المتقلّبة في الداخل اللبناني؟
يجيب نجم انطلاقاً من تجاربه وسيرته الذاتية، ويدعو الحاضرين والسامعين إلى التحلّي بالجرأة وخوض التجارب السياسية والفكرية كما يجب، وبقول الحقيقة كما هي وبكلّ قناعة. ويصرّح نجم، "الحاضر يشير إلى تراجع في الأداء الفكري والسياسي وبتناقص أعداد النخب اللبنانية مقارنة بالنخب التي كانت سائدة منذ عقود من الزمن في الوسط السياسي في لبنان، مع العلم أنني عانيت في كلّ المراحل من تجّار السياسة والفكر، فلا تكونوا يوماً مثل اولئك التجّار، هم من أفسدوا لبنان الذي وصلنا إليه".
هل يصحّ القول مؤخّراً أن هناك تغيير جذري يجب أن يطرأ على النظام اللبناني للعبور إلى مرحلة أفضل؟
وتوازياً مع هذا السؤال، ينبغي تعريف الفكرة الرئيسية التي يبني عليها المفكّر أنطوان نجم تصوّراته للنظام اللبناني، ومحورها الدولة الفيدرالية. قدّم نجم منذ عقود هذا الطرح انطلاقاً من فهمه واقتناعه بالتركيبة المجتمعية المتعدّدة، باعتبارها كنزٌ يتغنّى به لبنان، وكان أول مقال نشره عن الفدرالية في مجلّة "الصيّاد" عام 1976. كما سعى نجم إلى شرح أهمية أن يكون لبنان دولة إتحادية، مع تأسيس مجلس رئاسي بدل جعل الرئاسة محصورة بشخص واحد، بما يسمح لجميع المكوّنات بممارسة حقّهم بالمشاركة، تماشياً مع التعددية المجتمعية.
ما هي برأيك المواصفات اللازمة لأي شخص قيادي ومسؤول؟
ويعدّد نجم هذه المواصفات، "أوّلها التواضع، الثقافة، المحبّة، العلاقات الجيّدة مع محيطه، احترام الرأي الآخر والسعي إلى توجيهه نحو الأفضل، وبالطبع الإهتمام بالمصلحة الوطنية. أنا بدوري، وخلال مسيرتي المهنية، كنت على مقربة بالعديد من الأساتذة،رغم اختلافهم المذهبي والفكري، وكنت ألتزم بهذه المواصفات بحكم منصبي كمدير مدرسة". فأضحى نجم بذاته مدرسة، يلجأ إليه زملاءه الأساتذهللإستشارة وأخذ رأيه. ويضيف،"كنت على قناعة بأننا أناس نستحقّ التفاعل فيما بيننا، كمسلمين ومسيحيين في هذا البلد، نحو تشكيل مجموعة خلّاقة تعيش وفقاً للمبادئ والقيم".
وفي نهاية اللقاء، ومن بعد تقديم عرض سريع حول كيفية توزيع الكتب وتقسيمها بحسب مواضيعها، ووضع آلية لكيفية البحث عن الكتب وقراءتها. كما سيتمّ تأسيس منتدى للقراء لمناقشة كتاب معيّن، مع الترحيب بالمشاركة الفاعلة في هذا النشاط القادم. عبّر الأستاذ أنطوان عن امتنانه لهذا العمل الدؤوب والذي أصبح نادراً في يومنا الحالي، مشدّداً على أهمية الإستمرار بهذا النهج وهذه الروحية. وأخيراً قام نجم بتوقيع كتب صادرة له في السابق وقدّمها إلى الحاضرين، تاركاً جملة معبّرة عن لبنان والقضية اللبنانية إلى جانب توقيعه.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك