كتب العميد المتقاعد غازي محمود:
أثارت التوقعات الأخيرة لـ Standard & Poor’s Global بانخفاض كبير في قيمة الليرة اللبنانية خلال السنوات الثلاث المقبلة، التساؤلات حول دوافع هذه التوقعات السلبية من جهة ومدى مقاربتها للواقع من جهة ثانية. خاصةً وأن هذه التوقعات تُعيد الى اذهان اللبنانيين المشهد الذي واكب انهيار قيمة الليرة اللبنانية منذ العام 2020، وما تخلل تلك الفترة من تحليلات وربما "تمنيات" للبعض بانهيار الليرة الى مستوياتٍ غير مسبوقة. في الوقت الذي ساهمت التطورات التي شهدها الاقتصاد اللبناني والإجراءات التي اعتمدها مصرف لبنان منذ مطلع صيف العام 2023، بوقف هذا الانهيار ولو على مستوى القيمة الاسمية لليرة.
وتتوزع توقعات الوكالة الدولية على ثلاث مراحل، حيث تتوقع في المرحلة الاولى أن يُسجل سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي 115 ألفاً في العام 2025، و136 الفاً في المرحلة الثانية بحلول العام 2026 على أن تُسجل الليرة في المرحلة الثالثة والأخيرة في العام 2027 ما يُعادل الـ 152 الفاً. مع العلم أن سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي كان سجل 140 ألف ليرة نهاية شهر آذار من العام 2023، قبل أن يستقر على السعر الحالي.
وتستند الوكالة الدولية في توقعاتها الى التحديات العديدة التي يواجهها الاقتصاد اللبناني، لا سيما منها تزايد المخاطر الأمنية في لبنان بسبب استمرار المواجهات بين حزب الله والعدو الإسرائيلي، والشلل السياسي المتمادي في ظل حكومة تصريف الاعمال. كما تستند هذه التوقعات الى انعدام ثقة المستثمرين وعدم الاستقرار الاقتصادي، وافتقار السياسة النقدية للمرونة المطلوبة بالإضافة الى دولرة الاقتصاد المرتفعة.
وكان صندوق النقد الدولي اعتبر في تقريره الصادر في أيار الماضي، إن الإصلاحات الاقتصادية في لبنان غير كافية للمساعدة في حل الأزمة الاقتصادية التي تتخبط فيها البلاد بالإضافة الى تفاقم أزمة اللاجئين السوريين. فيما رأت S&P Global أن الضعف في الحوكمة وتدني فعالية المؤسسات هما من أسباب استمرارها. ذلك أن عدم تحقيق تقدم ملموس في الإصلاحات المطلوبة على اكثر من مستوى، وكذلك الحال بالنسبة الى التأخر في إعادة هيكلة الديون في المدى المنظور يُفاقمان الازمة ويطيلان أجلها.
وعلى أهمية الأسباب التي يوردها كل من صندوق النقد الدولي وS&P Global، إلا أن الشح في البيانات المالية الرسمية حتى لا نقول غيابها يدعوا الى التساؤل عن صلة توقعاتهما بواقع الحال اللبناني المالي والنقدي. لا بل يجعل من هذه التوقعات اقرب الى تكهنات او تمنيات لمُعديها، ولا يُمكن أن تندرج إلا في اطار الضغوط المستمرة على الاقتصاد اللبناني من خلال محاصرة ادواته النقدية بعد تقويض نظامه المصرفي.
في المقابل، إن تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي عند الـ 89 الف وخمسمائة ليرة، لا يعني بأن سعر الصرف الحقيقي لا يزال عند المستوى عينه عند اعتماده نهاية تموز من العام الماضي. خاصةً وأن تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية أدت الى ارتفاع أسعار السلع الغذائية، كما أدت الحرب على غزة الى ارتفاع اجور النقل التي تسببت بارتفاع تكلفة جميع السلع. الامر الذي ينعكس سلباً على قيمة الليرة او قوتها الشرائية وإن استمر سعر الصرف الاسمي دون تغيير.
وفي حين ساهمت دولرة الاقتصاد الوطني في استقرار سعر الصرف الاسمي بالحؤول دون المضاربة على الليرة، إلا أن ذلك لم يحل دون انخفاض قوتها الشرائية بسبب ارتفاع الأسعار ومضاعفاتها التضخمية. فالانخفاض الذي يُطاول قيمة الليرة اللبنانية كما يُطاول غيرها من العملات الوطنية، يبقى في حدود معدلات التضخم العالمية على الرغم من الأزمة المالية والاقتصادية التي يتخبط فيها لبنان.
أما ادراج السناريوهات التي توقعتها وكالة S&P Global بالنسبة الى انخفاض قيمة الليرة اللبنانية في السنوات الثلاث القادمة، في اطار انهيار جديد مع ما يُرتبه من تداعيات اقتصادية واجتماعية لا يُمكن أن يكون من باب التحليل الموضوعي. سيما وأن هذه التوقعات تتزامن مع تهديدات العدو الإسرائيلي للبنان بحرب شاملة ومدمرة، مع العلم أن سعر الصرف ظل على استقراره في خضم المواجهات المستمرة في الجنوب منذ ما يزيد على العشرة أشهر.
وعلى الرغم من أن الإصلاحات المالية والاقتصادية لا تزال بعيدة المنال في ظل امتناع حكومة تصريف الاعمال عن اعتماد خطة للنهوض الاقتصادي واضحة المعالم والتوجهات، فإن حجم الاقتصاد الوطني في نمو مضطرد بعد الضمور الذي أصابه غداة الازمة المالية والاقتصادية وجائحة الـ COVID-19. كما أن احتياطات مصرف لبنان هي في تزايد مستمر ولو بنسب ضئيلة، مما يُساعد على استقرار قيمة الليرة وقوتها الشرائية لا العكس.
وامام هذه التحليلات والتوقعات المستجدة حول مستقبل العملة الوطنية وقوتها الشرائية، لا بد من توحيد وتحرير سعر صرف الليرة اللبنانية. فقد آن الأوان وبعد انقضاء خمس سنوات على الازمة، أن تعمد السلطتين المالية والنقدية الى توحيد سعر الصرف بعد أن تم اقتطاع ما يُقارب ثلث قيمة الودائع ويستمر احتجاز ما تبقى منها بالتكافل والتضامن مع المصارف. والامر عينه ينطبق على ضرورة تحرير سعر الصرف ليعكس القيمة الفعلية للنقد الوطني، خاصةً وأن تثبيت سعر الصرف مقابل الدولار الأميركي عمق الازمة المالية والنقدية وزاد في تفاقمها ومن تداعياتها الاقتصادية.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك