جاء في صحيفة "الأخبار":
في آخر تقرير لها، أصدرت وكالة «ستاندرد آند بورز» تقديراتها المستقبلية لمجموعة من المؤشرات الاقتصادية من بينها مؤشر أسعار الاستهلاك الذي يتوقع أن يظهر تراجعاً في التضخّم إلى 40 في المئة في 2024 ثم إلى 12 في المئة بحلول 2027. لكن هذه التقديرات سبقت الخطة الحكومية المسرّبة لإعادة هيكلة القطاع المالي في لبنان، والتي تتضمن تحويل جزء من الودائع إلى ليرة ما من شأنه ضخّ نحو 833 تريليون ليرة على مدى السنوات الـ11 المقبلة بمعدل 75.7 تريليون ليرة سنوياً، أي إن التخضّم سيعود إلى المسار الذي يفتح له المدى الأقصى في السنوات المقبلة، بدلاً من أن يتراجع إلى 12 في المئة الذي لا يُعد مستوى متدنّياً أصلاً. يمكن القول إن هناك سيناريوهين لمؤشّر الأسعار. الأول مبني على أساس الوضع الحالي القائم استقرار في سعر الصرف ضمن معدل 98500 ليرة لكل دولار، والثاني مبني على خطوة تحويل جزء من الودائع من دولار إلى ليرة، أو ما يُعرف بالـ«لَيلَرَة». حالياً، السيناريوهات تراوح بين الأسوأ والأكثر سوءاً، ولا ثالث لهما.
الموت البطيء
في السيناريو الأول الذي حاولت «ستارندرد أند بورز» تقديم صورة مستقبلية عنه، يظهر أن الوقع الحالي قادر على الاستمرار رغم التوترات العسكرية في المنطقة ولبنان، وهو ممانع لتداعيات الفراغ السياسي على مستوى السلطة العليا في لبنان، كما أنه قد يأخذ في الحسبان ارتفاع الأسعار الذي سينجم عن الإعمار في مدة ما بعد انتهاء الحرب، لا سيما أن التدفقات الخارجية التي ستموّل إعمار ما تهدّم سيكون لها أثر كبير على التضخّم في أسعار مواد البناء وصناعة البناء وهي، كما شهدنا دوماً، صناعة قادرة على التأثير بشكل هائل في سائر الأسعار.
إذاً، في السيناريو الأول، يبدو أن هناك استقراراً نسبياً في سعر الصرف. بدأ الأمر في المدة التي تلت نهاية ولاية حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة. يومها كان العمل جارياً من أجل إقرار موازنة 2024 التي تضمنت نقاشاً واسعاً بشأن سعر الصرف المعتمد فيها. واختلط النقاش بشأن ذلك بين الإيرادات والنفقات. انتهى النقاش إلى اتفاق على استكمال مسألة دولرة جزء أساسي من الإيرادات لا ترتبط مباشرة بالدولار ومختلفة عن الرسوم الجمركية المبنية أصلاً على ما يسمّى الدولار الجمركي. وإلى جانب ذلك، ساد اتفاق بين مصرف لبنان والحكومة على أن يمتنع الأول عن إقراضها وفي المقابل تمتنع هي عن الإنفاق. هكذا، أصبحت غالبية الأموال التي تجبيها الحكومة، محكومة بالجمود وباتت تتراكم في حسابات الخزينة لدى مصرف لبنان. أما في السوق، فلم يعد التضخّم مرتبطاً حصراً باستقرار سعر الصرف، بل أصبح التضخّم المستورد بفعل الدولرة والاعتماد المفرط على الاستيراد، أكثر حضوراً في الداخل، أي إن التضخّم لم يعد مرتبطاً حصراً بالعوامل النقدية، وصارت العوامل البنيوية في الاقتصاد عاملاً مؤثّراً فيه، ومنها ارتفاع حصّة أصحاب العمل، وارتفاع الأكلاف المحلية على المؤسسات والأعمال، مثل كلفة الطاقة.
إزاء هذا الوضع يبزر سؤال أساسي: هل سيبقى الوضع الحالي قائماً في المستقبل؟ إلى أي مدى يستطيع مصرف لبنان الحفاظ على الاستقرار النقدي عبر «خنق» النفقات الحكومية واستعمال الضريبة كأداة لسحب السيولة بالليرة؟ ففي الواقع، يأتي هذا الإجراء المتفق عليه بين مصرف لبنان والحكومة، في سياق تعزيز الركود الاقتصادي. التقشّف في النفقات لا يظهر بشكل كبير عبر امتناع الحكومة عن الإنفاق الاستثماري، بل يبدو أكثر وضوحاً في الشق التشغيلي، وتحديداً في رواتب العاملين في القطاع العام. بمعنى آخر، أتى الاستقرار على حساب القدرة الشرائية لهؤلاء، وكبح أي إمكانية للحكومة للمساهمة في أي نمو محتمل. وعلى جانب آخر، يبدو أن مصرف لبنان يستطيع الحفاظ على سعر الصرف مستقراً بعض الشيء بسبب آلية التحكّم النقدية - الضريبية، لكن حتى الآن لم تدرس الحكومة مخاطر هذا الوضع ضمن المدى المتوسط، وانعكاسه على النمو وعلى قدرة المجتمع على التحمّل. عملياً، ستصبح نسبة كبيرة من المقيمين في لبنان محكومة بالموت البطيء عبر عملية إفقار تمتدّ لنحو سنوات فضلاً عما سبق. مخاطر النموّ ستكون أعلى من مخاطر التضخّم، وتداعياتها اجتماعية قد تنتهي على شكل مزيد من الهجرة.
مسار التضخّم مجدداً
السيناريو الثاني، فيه مخاطر مختلفة. فالنسخة الأخيرة من خطّة إعادة هيكلة القطاع المالي التي أعدّها مستشار رئيس الحكومة نقولا نحّاس، تتضمن ضخّ نحو 833 تريليون ليرة خلال 11 سنة، بمعدّل زيادة في الكتلة النقدية بالليرة يصل إلى 76 تريليون ليرة سنوياً. هذا الضخّ الإضافي من الليرات، يعني أن الكتلة النقدية التي تبلغ اليوم 60 ترليون ليرة، ستزداد في السنة الأولى بنسبة 126%، وفي نهاية السنة الـ11 ستزداد بنسبة 1388%. بالمقارنة مع مدة ما قبل الأزمة، فإن الكتلة النقدية المتداولة بالليرة كانت تبلغ 5 تريليونات ليرة، وأصبحت اليوم 60 تريليوناً، أي إنها ازدادت في خمس سنوات بنسبة 1200%، وخلال هذه المدة كان لها تأثير واسع، إذ استنفدت الاحتياطات بالعملة الأجنبية التي استُخدم قسم كبير منها للتدخل في سوق القطع (بأشكال مختلفة منها عبر صيرفة ومنها تدخل مباشر في السوق لشراء الدولارات وبيعها...)، كما تزامنت مع انهيار في سعر الليرة التي فقدت أكثر من 98% من قوتها الشرائية، إلى جانب تضخّم في أسعار السلع والخدمات تراكم ليصبح 5988% بين كانون الثاني 2019 وتموز 2024.
اللافت أن هذه الخطّة، مرسومة لتعالج نحو 24.4% من الودائع بالعملات الأجنبية، أي إن نحو 21.1 مليار دولار من الودائع سيتم تحويله إلى ليرة. هذا المبلغ هو عبارة عن ودائع بالدولار ستتحوّل إلى ليرة، وهي الودائع غير المؤهّلة (التي حُولت إلى دولار بعد 17 تشرين 2019) التي سيُضمن منها 36 ألف دولار (يُدفع منها 25% بالليرة اللبنانية) في حين أن باقي مبلغ الودائع غير المؤهّلة سيُحوّل إلى ليرة على سعر صرف يبلغ 30% من سعر صرف السوق. في حين أن الودائع المؤهلة التي تراوح بين 100 و500 ألف دولار، سيُدفع ما يفوق الـ100 ألف دولار منها بالليرة على سعر صرف يبلغ 45% من سعر صرف السوق. أي إن هذه العملية تتضمن «هيركات» مباشراً على هذه الودائع، وأن الضمانة التي ستقدمها الخطة للمودعين تعدّ زهيدة جداً، بينما هؤلاء المودعون إلى جانب سائر المقيمين على الأراضي اللبنانية سيدفعون ثمن هذا التحويل من الدولار إلى الليرة عبر تضخّم الأسعار وفقدان المزيد من القوّة الشرائية.
السيناريوهات تراوح بين الأسوأ والأكثر سوءاً، ولا ثالث لهما
عملياً، سينعكس قرار الحكومة بتحويل هذه الدولارات إلى ليرات تنفيذاً للخطة المطروحة، ارتفاعاً في حجم الكتلة النقدية الموجودة في السوق بالليرة. كل الخطط السابقة كانت تتضمّن «ليلَرَة» بعض الودائع بالدولار، ما يعني أن هذه الودائع ستُسدد بالليرة وبالتالي سيضطر مصرف لبنان إلى ضخّ كتلة نقدية بالليرة في السوق. وبالتالي، فإن التزامن السابق بين سعر الصرف وبين التضخّم سيعود إلى الواجهة مجدداً ليعيد خلط كل المعادلات التي رسمت في سياق تهدئة انهيار سعر الصرف. الخاسر الأكبر من انهيار إضافي في سعر الصرف هم العاملون في القطاع العام وبعض الفئات الأخرى التي تتقاضى أجورها بالليرة اللبنانية، إذ إن رواتب هؤلاء ليس لديها المرونة الكافية للتعافي السريع بل سيغرقون سريعاً في مزيد من الفقر وستترسّخ لديهم نوايا الهجرة. كما أن هذا الأمر ستكون له قراءة اقتصادية مختلفة على توقعات النمو وعلى تدفق التحويلات للمغتربين... باختصار، المخاطر كبيرة ومختلفة عن السيناريو الأول الذي يمهّد لركود مستدام، ولكن المشكلة أنه لا يوجد سيناريو ثالث حالياً.
قائد جهادي كبير يروي عن استعدادات المقاومة للحرب: هدفنا تدمير جيش العدو وسينتشـلون الجثث من تحت ركام المدن
«انقلابٌ» على أسامة سعد
60 مرة
هو حجم ارتفاع الأسعار في لبنان منذ نهاية 2018 حتى تموز 2024، وهو يُعبّر عن ارتفاع الأسعار بالليرة. معدّل التضخّم هذا كان بشكل أساسي بسبب ارتفاع سعر صرف الليرة التي خسرت نحو 98% من قيمتها منذ بداية الأزمة
24177 في المئة
هي نسبة ارتفاع الأسعار في قطاع المطاعم والفنادق بين نهاية 2019 وتموز 2024 وهي أكبر نسبة ارتفاع في الأسعار بين كل القطاعات، وهذا الارتفاع مصدره الأموال القادمة من الخارج مع المغتربين والسيّاح خصوصاً أن هذا القطاع يُعتبر أساسياً في الحركة السياحية في البلد
17387 في المئة
هي نسبة الارتفاع في أسعار المواد الغذائية بين نهاية 2018 وتموز 2024 وهي ثاني أكبر نسبة تضخّم بين القطاعات التي يُحددها مؤشر أسعار الاستهلاك، ويُعبّر هذا الأمر عن ارتفاع كلفة المعيشة لدى الأُسر اللبنانية
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك