بات واضحاً أن المهمة التي تنكّبتها اللجنة الخماسية التي تضم الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا ومصر والمملكة العربية السعودية وقطر قد أدت قسطها للبنان، وهي وإن كانت ما زالت مستمرة بالحد الأدنى، فلمعالجة المسائل الطارئة على غرار عودة الحرب والعنف بشكل خطر، فيما تستمر بالمواكبة من بعيد نسبياً في ظل الوقف الهش لإطلاق النار.
والواقع أن من يتولى المواكبة اللصيقة والتنسيق الدائم يتمثل بالثنائي الأميركي - السعودي والذي انضم إليه الفرنسي بعد نوع من التردّد، لكن يبدو أن الرئيس إيمانويل ماكرون اقتنع بأن الرئيس دونالد ترامب يختلف كلياً عن سلفه جو يايدن، وأنه عازم على الاندفاع بقوة نحو حالة تطبيع في الشرق الأوسط يسميها سلاماً دائماً، لا سيما مع انحسار الروس عن الواجهة والاكتفاء بدور أقل طموحاً تحت المظلة الأميركية من خلال قاعدتي حميميم الجوية وطرطوس البحرية في سوريا، فضلاً عن وجود قرار أميركي بتحجيم النفوذ الإيراني في المنطقة وصولاً إلى إعادة الجمهورية الإسلامية إلى حدود إيران، وإن احتفظت بعلاقات وثيقة مع بعض المكونات في دول المنطقة، لكن الرهان على "تصدير الثورة" والاحتفاظ بالأذرع العسكرية لم يعد وارداً، سواء عبرالتخلي عنه بالحسنى نتيجة الضغوط القاسية أو بالقوة نتيجة ضربة عسكرية واسعة وشديدة تتولاها على الأرجح إسرائيل بدعم وغطاء أميركيين.
وهذا يعني، وفق مصادر دبلوماسية أوروبية، أن الضربات على الحوثيين في اليمن إلى تصاعد تدريجي، ما سيدفعهم إلى الخيار إما الاستمرار في افتعال المشكلات الأمنية وما تعنيه من ثمن باهظ على عاتقهم، لا سيما مع وجود نوايا بفرض حصار محكم على مناطق سيطرتهم وعزلهم أكثر عن إيران، وإما التسليم بحل يحافظون فيه على نفوذ معين ضمن حل شامل للأزمة اليمنية.
أما العراق، فيبدو في حالة من الحيرة والإرباك في كيفية التعاطي مع التحديات المستجدة، وإن كان رئيس حكومته محمد شياع السوداني يميل إلى إبقاء العلاقة مع واشنطن في حالة جيدة وتالياً إلى عدم الاستعجال في رحيل القوات الأميركية من العراق، خصوصاً على خلفية عودة المكوّن السني إلى السلطة في سوريا، وتحركات أقل خجلاً لتنظيم داعش في البلدين، فيما الحشد الشعبي المرتبط إلى حدٍ كبير بإيران يتخذ موقفاً حذراً من التطورات ويبحث عن كيفية تشريع حضوره في صلب الدولة أكثر.
أين لبنان من هذا المشهد؟
يشكل لبنان جزءاً من الرؤية التي كوّنها الرئيس ترامب للشرق الأوسط، بل إنه يمثل حجراً أساسياً في اللعبة الإقليمية بالنسبة لإدارته، فهو بصريح العبارة يريد سلاماً شاملاً مع إسرائيل، ويراهن على انضمام المزيد من الدول إلى هذا الخيار، بعد مصر والأردن، بالإضافة إلى دولة الإمارات والبحرين والمغرب وبنسبة معينة السودان، علماً أن دولاً أخرى لا تبدي ممانعة لكنها تربط الأمر بحل الدولتين على غرار السعودية. ولذلك قد ينحى الرئيس الأميركي بعد "إراحة" إسرائيل، إلى دفعها للقبول بصيغة معينة تمثل حالة وسطية بين السلطة الفلسطينية الحالية والدولة.
وفي رأي الأوساط الدبلوماسية الأوروبية، فإن إسرائيل باقية في النقاط الحدودية الخمس وستستمر في غاراتها وعملياتها العسكرية مستهدفة "حزب الله" وترسانته ومخازنه، وربما لاحقاً قياداته وكوادره، فضلاً عن مسارب تهريب السلاح إليه، ولن تتراجع إلا عندما يتخلى عن سلاحه، وهذا الشرط هو نفسه الذي تطرحه الدول الغربية والعربية من منظار آخر للإفراج عن الأموال والمساعدات الخاصة بالإعمار، انطلاقاً من أن المملكة العربية السعودية تستنكر الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان وغزة وترفض أي تفاوض أو تطبيع خارج إطار حل الدولتين.
وعلى خط مواز، يقول مسؤول إقليمي في إحدى المؤسسات المانحة، إن عدم إمساك الحكومة اللبنانية بقرار الحرب والسلم عبر حصر السلاح بأيدي قواها العسكرية والأمنية الذاتية، يعني أن كل بيت أو محل أو مدرسة أو معبد آيل للدمار مجدداً، وهذا من الأسباب التي تدفع إلى التحفظ في تقديم المساعدات الإعمارية، ولذلك، ومن خلال الاتصالات مع كبار المسؤولين اللبنانيين، يتضح أن هؤلاء المسؤولين يدركون الواقع تماماً ويسعون إلى إبداء حسن النية حيثما أمكنهم ذلك، علماً أن ذلك ليس كافياً.
في أي حال، لعل وزير الخارجية يوسف رجّي هو الأعلم بهذا الواقع من خلال الاتصالات الكثيفة التي يتولاها خارجياً ودبلوماسياً، وقد لاحظ مسؤولون ودبلوماسيون أوروبيون تبدل اللغة الدبلوماسية اللبنانية التقليدية لتصبح أكثر وضوحاً وتماسكاً وتعبيراً عن الاستقلال الوطني، علماً أن المراهنة على محاولة عزل الوزير رجّي أو الإيحاء بأنه يغرد خارج السرب الحكومي قد فشلت، لأنه يعبّر عن مواقف مبدئية بديهية تتعلق بسيادة لبنان والمواقف المنطقية حيال إسرائيل، ومن الأكيد أن الرئيس العماد جوزاف عون ورئيس الحكومة نواف سلام راضيان عن أدائه ويواكبانه ويزودانه بالتوجيهات عند اللزوم، ولو كان لهما موقف آخر، لتصرّفا بشكل مغاير.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك