ما لا شكّ فيه أن إسرائيل تمضي قدماً في خروقاتها اليومية للقرار الأممي رقم 1701 ولاتفاق وقف إطلاق النار المترنّح مع لبنان، والذي يزداد هشاشة يوماً بعد آخر. وإذا كان الجيش الإسرائيلي ينتهك الأراضي اللبنانية بثباته في "النقاط الخمس" إلى أجَل لم يسمِّه، فإنّ مدنيين إسرائيليين "متديّنين" دخلوا في الآونة الأخيرة حلبة الصراع الجنوبي، وتحديداً "الحريديم" منهم الذين ضربوا بالخط الأزرق عرض الحائط واجتازوه إلى داخل الأراضي اللبنانية وصولاً إلى بلدة حولا الجنوبية، ليزوروا "موقع العباد".
تقول الرواية اليهودية التاريخية إن الموقع يعود إلى حاخام يدعى "آشي" مدفون هناك ويُعتبر أحد أبرز علماء التلمود، وبات قبره نقطة جذب رئيسية ليهود "الحريديم" الذين يؤمنون بأهمية الصلاة عند قبور "الصالحين"، وبحسب الروايات الدينية اليهودية، فإن الحاخام "آشي" كان أحد محرّري التلمود، ويُقال إنّ أبناءه دُفنوا بجواره في الموقع عينه، بينما يؤكد لبنان أن الموقع هو مقام "الولي الشيخ العباد"، وهو رجل دين شيعي مدفون في التلة منذ مئات السنين، وقد أُطلق اسمه عليها.
وقبل الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000، كان هذا المقام في قبضة القوات الإسرائيلية، وبعد الانسحاب بقي نقطة متنازعاً عليها بين البلدين، فتدخل آنذاك مبعوث الأمم المتحدة تيري رود لارسن واقترح تقسيم الموقع إلى جزءين يشطرهما الخط الأزرق، وبالتالي أمسى قسم من الموقع داخل الأراضي اللبنانية، والقسم الآخر تحت السيطرة الإسرائيلية.
طمأنة سكان مستوطنات الشمال
بعدما كان الجيش الإسرائيلي حرص لأسابيع عدة على منع وصول اليهود المتطرفين إلى الموقع المذكور داخل لبنان واصطدم معهم في بعض الأحيان، تلافياً لأيّ تطوّرات أمنية أو ردات فعل غير محسوبة التداعيات، فإنه آثر هذه المرة غضّ الطّرف، بل مباركة وتنظيم زيارة دينية لمجموعة ضمت زهاء 800 من اليهود المتزمّتين إلى موقع "العباد"، علماً أن هذه الخطوة لا تلقى إجماعاً داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، بل لاقت انتقادات شديدة من بعض القادة الأمنيين.
كذلك، يمكن لمثل هذه الزيارة أن توضع في خانة طمأنة سكان مستوطنات الشمال المتردّدين في العودة إلى منازلهم، فمجموعة "الحريديم" التي قصدت "تلة العباد"، سلكت طرقات المستوطنات الخاوية والتي بدت مدن أشباح واجتازتها لتصل إلى داخل الأراضي اللبنانية.
كما أن هذه الزيارة لا تعدّ بريئة ولا عفوية، بل تندرج في إطار الحرب الثقافية مع لبنان والتي تتقن الدولة العبرية خوضها بشدة، من خلال سياسة "تهويد" الأراضي العربية، خصوصاً الفلسطينية منها التي تحتلّها، ووسمها بطابع ديني. واهتمام "الحريديم" لا يقتصر على "موقع العباد"، بل إن زياراتهم تشمل مواقع أخرى داخل الأراضي الفلسطينية وخارجها، فعلى سبيل المثال لا الحصر، تُعتبر زيارة "قبر يوسف" في نابلس في الضفة الغربية من الطقوس الدينية المهمّة لدى اليهود المتزمّتين، وغالباً ما تتمّ تحت مظلّة عسكرية إسرائيلية. كما أن زيارات "الحريديم" إلى المواقع التي تكتسب أهمية دينية بالنسبة إلى اليهود، تنسحب إلى دول عربية أخرى كالمغرب، فخلال السنوات الأخيرة، شهدت البلاد ارتفاعاً مطرداً في أعداد اليهود الذين يزورون قبور الحاخامات هناك.
من هم يهود "الحريديم"؟
هم اليهود الأرثوذكس المتشدّدون، يكنّون العداء للديمقراطية ويحظّرون الاختلاط بين الجنسَين، يعتبرون أن سلاحهم روحاني ويرفضون الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي بدعوى تكريس حياتهم للتعمّق بدراسة التوراة، رغم قرار "المحكمة الإسرائيلية العليا" في 25 حزيران من عام 2024 إلزامهم بالتجنيد، وحظر الدعم المالي عن المؤسسات الدينية التي لا يمتثل طلابها للخدمة العسكرية.
ويشكل "الحريديم" حوالى 13 في المئة من سكان إسرائيل البالغ عددهم نحو 10 ملايين نسمة، ومن المتوقع أن تصل نسبتهم إلى 19 في المئة عام 2035 نظراً إلى ارتفاع معدّلات المواليد في صفوفهم مقارنة بسائر اليهود الإسرائيليين، كما يعتقدون أن الاندماج في المجتمع العلماني يشكّل تهديداً لهويتهم الدينية وخطراً على ديمومة مجتمعهم المُحكَم الإغلاق.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك