صاحب الغبطة، بطريرك مدينة الله العظمى أنطاكية، حيث "دُعِيَ التَّلَامِيذُ مَسِيحِيِّينَ أَوَّلًا" (أعمال الرسل ١١: ٢٦)، أوجّه إلى غبطتكم تحيّة ملؤها المحبّة والتوقير، مفعمة بتقدير عميق لمواقفكم التي تجلّت شجاعةً وحكمةً في زمن تتقاذفه العواصف، ويعصف بشعبكم المترسّخ في الإيمان وسط أمواج هذا الشرق المتلاطم.
سيدي صاحب الغبطة، المُقام من الله بطريركًا على هذا العرش الرسولي، ليس صدفةً أن اخترتم القديس يوحنا الإنجيلي اللاهوتي شفيعًا لكم. فالذي اقتبل سرّ الكلمة في قلبه واستودعته السماء رؤى الأزل، كان شاهدًا للحقيقة التي تجلّت محبّةً وسجودًا وسلوكًا لا يعرف المهادنة. أنتم، يا صاحب الغبطة، مسكونون بروحه، ماضون في ذات الدرب، حيث تتقاطع أزمنة الكنيسة وتلتقي الأزمنة بالسرّ الدهري الذي حملتموه يوم جلستم على كرسيّ أنطاكية العظيم.
أنطاكية تتطلّع إليكم كما تطلّعت يومًا إلى القدّيس أغناطيوس الأنطاكي، وإلى أسلافكم الذين نقشوا في صخر التاريخ مجد الكنيسة، وحفظوا وديعة الإيمان لتظلّ مشعّة في الأجيال، وتبقى أنطاكية عروسًا بلا دنس، تحمل مشعل الإيمان في وجه العواصف، شاهدةً للمصلوب القائم في هذا الشرق المعذّب. ومن هنا، كان توصيف بطاركة أنطاكية بأنهم "الثالث عشر بين الرسل القدّيسين"، إذ يُسند إليهم ما أُسند إلى الرسل: أن يكونوا أركانًا في هيكل الإيمان، حرّاسًا للحقيقة، وسفراءً للنور الذي لا يغلبه الظلام.
تستشفعون بالإنجيلي يوحنا، التلميذ الذي كان يسوع يحبه،
ذاك الذي اتّكأ على صدر المعلّم، فذاق سرّ الأزل، وكتب عن النور الذي يشرق في الظلمة، وعن الكلمة الذي كان في البدء. هو التلميذ الذي ثبت حين تفرّق الآخرون، وسار خلف المصلوب في الزمن الذي تحوّل فيه الليل إلى سطوة، والصمت إلى موت، والخيانة إلى خيار. هو الذي شهد للحقّ حتى النهاية، فجعلته السماء إنجيليّ اللاهوت، يكتب في البدء، ويكشف في المنتهى.
وعلى خطى شفيعكم تسيرون، يا صاحب الغبطة،
ثابتين في الزمن الذي يتهاوى فيه الكثيرون، شاخصين إلى نور الملكوت في زمن كثرت فيه العتمات. معكم يسير المؤمنون، يقتفون خطاكم كما يقتفي السائرون أثر النور في ليلٍ كثيف، وقد أبصروا فيكم باب الرجاء، وسراج الحكمة، وصوت الراعي الذي يعرف خرافه ويدعوها بأسمائها.
العيون شاخصة إلى وجهكم، والآذان صاغية إلى أقوالكم.
فأنتم لمنبر أنطاكية حارسٌ وأمين، وعلى أرضها الراسخة في الإيمان ترفعون الصوت، لا لتُسمعوا الناس كلامًا، بل لتسكبوا في أرواحهم حياة. هناك، في كنيسة الصليب المقدّس بدمشق، أو في مريمية الشام، أو في صيدنايا، حيثما وقفتم ناطقين بلسان الحقّ، تجلّى صوت الإنجيل حيًّا، كأنّه يُتلى لأوّل مرّة. حين خاطبتم شعبكم، لم يكن مجرّد خطاب، بل كان نفحة من العنصرة، ولادةً جديدة للكلمة في قلوبهم، وإيقاظًا لروحه في صدورهم.
رددتم على مسامعهم كلمات الرسول بولس إلى أهل كورنثوس:
"تَيَقَّظُوا. اثْبُتُوا فِي الإِيمَانِ. كُونُوا رِجَالًا. تَقَوَّوْا. لِتَصِرْ كُلُّ أُمُورِكُمْ فِي مَحَبَّةٍ" (١ كورنثوس ١٦: ١٣-١٤).
بهذه الكلمات، حملتم إليهم إرث الرسل، لا كوصيّةٍ قديمة، بل كحياةٍ تُعاش في يومهم هذا، في واقعهم المثقل بالتحدّيات، وفي شرقٍ تتقاذفه العواصف.
سيدي صاحب الغبطة،
إنّ السلام الذي تسعون إليه ليس استراحة المحارب، ولا تسويةً بين الأضداد، بل هو ذاك السلام الذي يتحدّث عنه السيّد حين يقول: "سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ، لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ" (يوحنا ١٤: ٢٧). هو سلامٌ مغروسٌ في الحقّ، متجذّرٌ في العدل، محمولٌ على أجنحة المحبّة، سلامٌ لا تسلبه الأيام قداسته، لأنّه ليس من هذا العالم.
شعبكم، يا صاحب الغبطة، هو شعب سلام، لكنّه سلامٌ مسكونٌ بالإيمان، ممتلئٌ رجاءً، متدثّرٌ بمحبةٍ هي بذار الملكوت في الأرض.
هذه الكلمات ليست مجاملة، ولا مدحًا. هي شهادةٌ حيّةٌ لما رأيناه في شخصكم، من بصيرةٍ مستنيرة، وإيمانٍ يفيض رجاءً، ومحبةٍ لا تعرف القيد.
أنطاكية تعوّل على جرأتكم وحكمتكم، وتنظر إليكم بعيون الرجاء.
ففي زمنٍ يحتاج إلى رجالٍ يَزِنون الأمور بمثقال الإنجيل، تقفون أنتم حارسًا على المنارة، ثابتين على صخرة الإيمان، ناظرين إلى ما هو أبعد من عواصف الزمن، إلى ذاك النور الذي يشعّ من الضفة الأخرى، حيث ملكوت الله يتجلّى لمن ثبت وسار حتى النهاية.
نصلّي معكم ومن أجلكم،
لتبقى كنيسة أنطاكية، هذه السفينة التي قطعت أمواج التاريخ، متجذّرةً في هذا الشرق، شاهدةً للحقيقة، مبشّرةً باسم المخلّص، حاملةً نار المحبّة في عالمٍ كثر فيه الرماد.
معكم نردّد كلمات يوحنا الحبيب:
"الْمَحَبَّةُ الْكَامِلَةُ تَطْرَحُ الْخَوْفَ إِلَى خَارِجٍ، لأَنَّ الْخَوْفَ لَهُ عَذَابٌ. وَأَمَّا مَنْ خَافَ فَلَمْ يَتَكَمَّلْ فِي الْمَحَبَّةِ" (١ يوحنا ٤: ١٨).
نرفع الدعاء لشعب أنطاكية، لبطاركتها وأساقفتها وإكليروسها، ولكلّ مكوّنات هذا المشرق العظيم، أن يمنحهم الله سلامًا لا يُنزع، وحكمةً تُضيء، وإيمانًا يزهر ملكوتًا في قلوبهم.
ولغبطتكم، يا صاحب الغبطة، ندعو بسنين عديدة، مديدة، مكلّلة بالقداسة، متوّجة بنعمة الروح القدس، حتّى تشرق أنطاكية كما كانت، أنطاكية النور، أنطاكية الرجاء، أنطاكية المسيح.
البطريرك يوحنّا العاشر
الــــــســــــابــــــق
-
"جمرٌ تحت الرّماد"... تخوّف من فتنة تنطلق من طرابلس!
-
لهيب الأسعار يُغيّر عادات اللبنانيين!
-
"وول ستريت جورنال" عن مسؤولين أميركيين: الجيش الأميركي يلعب دورًا دبلوماسيًا مهمًا خلف الكواليس في سوريا حيث يساعد في التوسط لاتفاقات بين الجماعات المسلحة والحكومة الجديدة
-
موعدان في قضاء بشري: انتخابات ومهرجانات وبصمتان لستريدا جعجع
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك