إن تأمل الواقع اللبناني في ضوء إطلاق إسرائيل لخمسة أسرى لبنانيين، ضمن سياق صراع يتكرر بصيَغٍ مختلفة، يكشف عن معادلة متناقضة بقدر ما هي واضحة: ثنائية القوة العسكرية الخارجة عن الدولة والقوة السياسية الساعية إلى إنقاذ الدولة. هذه المعادلة ليست مجرد توصيف لواقع سياسي قائم، بل تعبير عن أزمة فلسفية أعمق: هل يمكن لدولة أن توجد حين يكون السلاح خارج سلطتها؟ وهل يمكن أن يكون العنف، الذي هو بطبيعته أداة تدمير، وسيلة مشروعة لبناء مجتمع سياسي مستقر؟
- السلاح بين الضرورة التاريخية والاستلاب السياسي
يستند منطق الميليشيا إلى مبدأ تبريري قديم قِدَم الصراعات البشرية: امتلاك القوة يؤدي إلى فرض السيادة. بهذا المعنى، يرى "حزب الله" في سلاحه ضرورة تاريخية لا يمكن المساس بها، متذرعًا بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي كمبرر لاستمرار مشروعه المسلح. لكن ما يتجاهله هذا الطرح هو أن القوة المسلحة، حين تتحول من أداة مؤقتة إلى مشروع دائم، لا تؤدي إلى السيادة بل إلى العكس تمامًا: استلاب الدولة وتدمير بنيتها الداخلية.
فالقرار 1701، الذي أنهى حرب تموز 2006، لم يكن ثمرة انتصار عسكري بل نتيجة عمل سياسي ودبلوماسي قادته الدولة اللبنانية. وكذلك اتفاق وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني 2024، الذي أخرج الجيش الإسرائيلي من الأراضي التي احتلها في أعقاب مواجهات 8 تشرين 2023، لم يكن نتيجة صواريخ "الحزب"، بل نتاج جهد سياسي فرض منطقه على المجتمع الدولي.
بهذا المعنى، يصبح السؤال جوهريًا: إذا كانت القوة العسكرية تستجلب الاحتلال، بينما القوة السياسية تنهيه، فأي قوة يجب أن تُعتمد في صناعة المستقبل؟ أليس هذا دليلاً على أن العنف غير الموجه ضمن إطار الدولة ليس سوى مشروع دائم للهدم، حتى حين يُرفع شعار التحرير؟
- الدولة كضرورة فلسفية: بين فيبر وهوبز
منذ ماكس فيبر، أصبح واضحًا أن (الدولة الحديثة تحتكر العنف المشروع)، ليس باعتباره فعلًا قمعيًا، بل كآلية لضمان السلم الاجتماعي ومنع الفوضى. فالاحتكار ليس ترفًا سياسيًا، بل ضرورة وجودية لأي كيان وطني. حين تمتلك جماعة غير الدولة وسائل العنف، فإنها بالضرورة تعيد تعريف السيادة خارج إطار القانون، فتخلق بذلك سلطتين متوازيتين: سلطة القانون وسلطة القوة، حيث تكون الثانية قادرة دائمًا على تعطيل الأولى.
لكن المشكلة في لبنان تتجاوز مجرد امتلاك السلاح، إلى البنية الفكرية التي تحكم هذا الامتلاك. فمنطق الميليشيا يقوم على رؤية هوبزية للعالم، حيث "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان"، والصراع هو القاعدة والاستقرار هو الاستثناء. هذا ما يجعل مشروع "حزب الله" قائمًا على تأكيد منطق الطوارئ، حيث لا يُسمح للبنان أبدًا بالخروج من حالة الحرب، لأن أي استقرار حقيقي يعني زوال مبرر وجود السلاح.
بالمقابل، تمثل القوى السياسية التي تعمل ضمن الدولة منطق العقد الاجتماعي، حيث القانون هو الذي يحدد شروط القوة وليس العكس. وهنا تكمن المفارقة الفلسفية العميقة: منطق الميليشيا يُبقي الدولة في حالة احتضار دائم، بينما منطق الدولة يسعى إلى بناء سلطة تتجاوز الفوضى. فكيف يمكن للبنان أن يكون دولة فعلية وهو لم يحسم بعد إلى أي منطق ينتمي؟
السيادة: بين مفهومها الفلسفي وتشويهها الواقعي
حين يقول جان جاك روسو إن (السيادة لا تتجزأ)، فإنه لا يضع مجرد مبدأ سياسي، بل يؤكد حقيقة أن أي تقسيم للقوة داخل الدولة يؤدي حتمًا إلى انهيارها. فالدولة لا يمكن أن تكون نصف سيادية، مثلما لا يمكن أن يكون القانون نصف مُلزِم. في لبنان، يتم انتهاك هذا المبدأ بوضوح: هناك دولة تملك مؤسسات شكلية، لكن هناك أيضًا قوة عسكرية خارجها تمتلك القرار الفعلي في الحرب والسلم.
هذا الوضع يفرغ مفهوم السيادة من محتواه، حيث تصبح الدولة كيانًا رمزيًا لا يملك سلطة القرار، بينما تتحكم الميليشيا بمصير الشعب. وهنا تتجلى الإشكالية الأكبر: ما معنى أن يكون لبنان دولة، إذا كان الفعل السيادي الأهم، أي قرار الحرب والسلم، ليس بيد سلطاته الشرعية؟
في النهاية، يفرض التاريخ نفسه بمنطقه الحتمي: الميليشيات لا تبني دولًا، والدول لا تقوم إلا على احتكار السلطة والسلاح. ما جرى منذ 2005 إلى اليوم يُظهر أن كل مواجهة مسلحة يجرّ لبنان إليها "حزب الله" لا تقوده إلى التحرير، بل إلى احتلال جديد أو انهيار أعمق، بينما كل إنجاز سياسي تحقق لم يكن سوى نتيجة لعمل الدولة، وليس نتيجة لسلاح خارج عنها.
بناءً على ذلك، لم يعد السؤال هل يمكن لـ"حزب الله" أن يسلّم سلاحه، بل متى سيجد نفسه مجبرًا على ذلك. فالتاريخ لا يحفظ المشاريع المسلحة، بل يحفظ الدول التي استطاعت فرض سيادتها. ولبنان، إن أراد أن يبقى، لا خيار أمامه سوى أن يستعيد احتكار قراره، وإلا فإنه سيظل عالقًا في دوامة العبث، حيث تكون الحرب قدرًا، والسلم استثناءً عابرًا لا يطول.
بين حتمية الدولة واستحالة الميليشيا
الــــــســــــابــــــق
-
الجيش اللبناني يتسلّم العسكري زياد شبلي عند معبر رأس الناقورة وينقله إلى أحد المستشفيات لاستكمال علاجه جراء إصابته برصاص القوات الإسرائيلية لدى اختطافه الأحد الماضي
-
رئيس تايوان: هناك حاجة لإقرار إجراءات أكثر صرامة لمواجهة التسلل والتجسس الصيني
-
بالفيديو: "ركلة ترجيح غريبة".. إليكم حقيقتها
-
بعد اختطافه من قبل إسرائيل... الجيش يتسلّم العسكري
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك