يخطئ بعض الساسة كثيراً في الاعتقاد أن المرحلة الجديدة تعني عفا الله عمّا مضىى، أو أن الإصلاح يتخطى المحاسبة والمساءلة، باعتبار أن ظروفاً أقوى من الجميع هي التي تحكمت بالدولة وخياراتها وقراراتها عقوداً عدة. ومرد هذا الاعتقاد إلى البحث عن حجج للتملّص من المسؤوليات التي ترتبت عليهم خلال وجودهم في السلطة، لا سيما وأن ارتكاباتهم لم تكن بسيطة أو عابرة أو ظرفية، بل مثلت نهجاً متمادياً أودى بلبنان إلى الكارثة والإفلاس. ويقول قاضٍ كبير مخضرم، إن الفظائع التي ارتكبها العديد من القوى السياسية والمسؤولين، لا يمكن تغطيتها بأسباب سياسية مخففة، بل إن إدغام السياسة في الممارسات التي ترتبط بالخدمة العامة يستحق محاسبة مضاعفة، فكم بالحري عندما يتمثل ذاك النهج بتبادل المصالح بين غض نظر عن السلاح ومفاعيله من جهة وبين السكوت في المقابل عن السرقة والهدر والفساد.
ولذلك، إذا كان من محاسبة جدية، «فما حدا فوق راسو خيمة». وتقتضي المحاسبة الجدية آليات توحي بالثقة إجرائياً وقضائياً. ولن تكون عودة لبنان إلى سكة الازدهار والاستقرار المستدام بإطلاق خطوات إصلاحية ولو جدية فحسب، بل ينبغي أن ترتكز هذه الخطوات على قاعدة صلبة، هي المحاسبة على مختلف أنواع الجرائم والجنايات بحق الدستور والقانون والخزينة والحق العام وحقوق الناس.
ويبدي القاضي المخضرم تفاؤلاً على شيء من الحذر حيال تراجع منسوب المحاصصة في الحكومة الجديدة، بعيداً من الصيغ التوافقية القديمة التي كانت تلغي الديمقراطية السليمة. فالمحاصصة التقليدية هي التي منعت أي محاسبة ومساءلة بدءاً بمجلس النواب، وصولاً إلى القضاء. بل إنها سمحت لبعض كبار المسؤولين الفاسدين بتحميل المسؤولية حيناً للتركيبة السياسية التي كانوا جزءاً منها، أو لضعف القضاء الذي كانوا أبرز معطليه، أو للموظفين والإدارة العامة ككل، وهم من يتحكم بمفاصلها.
من الواضح، أن ملفات كثيرة وضخمة تنتظر تحويلها إلى دائرة المحاسبة والمساءلة سواء عبر التدقيق الجنائي أو عبر المسارات الطبيعية للعدالة والملاحقات والتحقيق والمحاكمة إلى لفظ الأحكام العادلة. وأبرز الملفات، الملف الهائل لوزارة الطاقة وتحديداً في معضلة الكهرباء وتشعباتها، أقله على خلفية تقرير التدقيق الجنائي الذي أعدته شركة «ألفاريز إند مارسال» ونشر في آب 2023، والذي أكد هدراً قارب الـ 25 مليار دولار خلال نحو عشر سنوات فقط، علماً أن الخسائر لا تنحصر بالهدر والصفقات والعمولات التي تتعلق بالبواخر التركية والفيول الجزائري وصيانة المعامل المتهالكة وتهريب المواد المدعومة، بل تشمل ما ترتب من إخفاقات وإهمال متعمد وعراقيل مفتعلة لمنع توفير التيار الكهربائي، على غرار التهرب من بناء معامل أرضية و»تهشيل» شركة سيمنز التي قدمت عرضاً ممتازاً، فضلاً عن تعطيل بناء المعمل الوحيد الذي تم إقراره لإنتاج الكهرباء وهو معمل دير عمار الجديد. حينها، عمد وزير الطاقة جبران باسيل إلى إطاحة المناقصة الأولى بحجة ارتفاع الكلفة، لتتم ترسية المناقصة الثانية على شركة قبرصية غير مختصة بإنتاج الكهرباء وتم تزوير بعض مستنداتها، فضلاً عن استبدال التجهيزات الأميركية والألمانية بتجهيزات صينية وماليزية، لينتهي الأمر بخلاف مفتعل حول الجهة التي تتحمل كلفة الضريبة على القيمة المضافة.
ملفات قضائية
إذا كان ملف الكهرباء هو جزء من ملفات عدة ثقيلة برسم المحاسبة، فإن بعض الملفات والقضايا القضائية ينبغي أن تكون بدورها قيد الملاحقة والمساءلة والتدقيق، وحتى «التحقيق في التحقيقات المرتبطة بها». فكما أن ملف الكهرباء تم توظيفه في خدمة الجشع لدى فريق سياسي معين لقاء سكوته عن ممارسات حليفه المستقوي بالسلاح، فإن ملفات أمنية سياسية لا يمكن التغاضي الى ما لا نهاية عن مساراتها البائسة وعن واقعها المفرَغ من الوقائع والحيثيات، نتيجة الضغوط السياسية الفاضحة على القضاء. كيف يمكن فهم عدم وجود ورقة واحدة فعلية في ملف التحقيق باغتيال الرئيس رينيه معوض كما قالت مراراً السيدة نايلة معوض ونجلها النائب ميشال معوض؟ وكيف يمكن تضليل التحقيق ورفض متابعة وقائع نافرة في ملف اغتيال رمزي عيراني، والأمر نفسه في خطف جوزيف صادر، مروراً بقضية تفجير مرفأ بيروت، وإصرار جماعة الممانعة على تعطيل التحقيق العدلي ورفض تشكيل هيئة دولية لتقصي الحقائق؟ وماذا عن ملفات اغتيال عدد من الأسماء التي تم ربط أصحابها بملف تفجير المرفأ، على غرار اغتيال العقيد المتقاعد في الجمارك منير أبو رجيلي والذي قيل لمن راجع في قضيته أولاً إن قضيته قد تكون مرتبطة بمسألة نسائية، ليقال للمراجعين بعد حين بأنها قد تكون مرتبطة بالمخدرات، ثم ليتم وضع الملف فارغاً على الرف؟
إن المحاسبة حتمية لإحقاق الحق وكشف الحقيقة في الكثير من الملفات، لأن العدالة كل متكامل، ولأن أي نهوض فعلي للدولة والمؤسسات لا يمكن أن يبنى على طمس الحقائق وترك القتلة والمرتكبين والفاسدين من دون ملاحقة وعقاب عند اللزوم، علماً أن ثمة مدرسة تقول: يكفي معرفة الحقيقة لا سيما في القضايا ذات الطابع العام لمنع تكرار الارتكابات والفظائع.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك