على مسافة أسبوع من انتهاء المهلة الثانية من وقف إطلاق النار، ما زالت الخروقات الإسرائيلية في القرى الحدودية متواصلة، تتزامن مع دخول الجيش اللبناني إلى مزيد من القرى التي كانت ما زالت تحت الاحتلال، كان آخرها انتشار الجيش اللبناني في قرى رب ثلاثين وطلوسة وبني حيان، في حين ما زالت ميس الجبل وحولا والعديسة وكفركلا وقرى الوزاني تحت الاحتلال بانتظار الثامن عشر من شباط.
إلى ذلك، عزّز الجيش اللبناني تواجده في القرى المحرّرة، حيث أقام حواجز على مداخلها، واستحدث أخرى في قريتي عيتا الشعب وعيترون وغيرهما.
في الطريق نحو عيتا الشعب، البلدة المدمّرة كلياً، وحده الدمار يرافق مرورك في القرى من عيترون، باتجاه عيناتا وبنت جبيل وصولاً نحو عيتا الشعب أو "أم العز" كما يطلق عليها.
من مدخل البلدة تبدأ مشاهد الدمار، لم يبق فيها منزل أو محلّ، يتجاوز حجم الدمار فيها الـ95 في المئة، ومع ذلك يتوافد الأهالي إليها، بحثاً عن ذكرياتهم الجميلة داخلها.
وعلى الرغم من انتشار الجيش اللبناني، إلّا أن الجيش الإسرائيلي توغّل عند أطرافها وأقام ساتراً ترابياً فيها، على مقربة من حاجز للجيش اللبناني ناحية رامية قبل أن يعاود تراجعه إلى داخل الحدود.
اللافت في عيتا الشعب هو انتشار باعة الخردة الذين يتجوّلون في أحيائها المدمّرة بحثاً عن الحديد الذي ارتفع سعره، وتشهد تجارة الخردة ازدهاراً وتوسّعاً، وباتت مهنة العاطلين عن العمل بعد الحرب.
ويحرص أصحاب المنازل المدمّرة على بيع الحديد والتنك وكلّ ما يمكن سحبه، وهو أمر ينسحب على كلّ الأحياء وكلّ القرى المدمّرة.
عند مدخل البلدة من ناحية بلدة رميش الحدوديّة، وضع هاني قاسم "إكسبرس" صغيراً قبل منزله المدمّر، يبيع عبره القهوة والمشروبات الساخنة لأبناء عيتا الشعب وللوافدين نحوها لرؤية الدمار الذي حلّ بها، يدعو هاني أبناء البلدة للعودة سريعاً، ويرى بعمله دافعاً للعودة، وأكثر يقول "أنام في منزلي رغم افتقاده كلّ مقوّمات الحياة، فالحرب أعادتنا إلى السطل، ومع ذلك لن أترك عيتا مجدّداً".
ينشط أبناء البلدة برفع الركام والبحث عن مقتنياتهم وصورهم التي تحفظ ذاكرتهم، في أحد أحياء عيتا المطلّ مباشرة على موقع الراهب، ينهمك علي باجوق في البحث عمّا تبقّى داخل منزله المدمّر المطلّ على أحياء البلدة المدمّرة كلياً، يرفع بعضاً من الصور الممزّقة ويقول "لم يبق لنا غير الذكريات، إسرائيل دمّرت كلّ شيء في عيتا، ما بقي منها شيء".
يقول علي إنه سيعود ليسكن عيتا وسينصب خيمة أو يأتي ببيت جاهز بحسبه "إرادة الحياة تنتصر على كتل الدمار".
هذا ما يطبّقه حرفياً معلّم الفلافل في عيتا الذي فتح دكانة صغيرة نجت من الدّمار، وراح يبيع الفلافل للوافدين نحو بلدته، بحسبه "إصراره على العمل نابع من ضرورة العودة".
هو المطعم الوحيد الذي فتح أبوابه في البلدة المنكوبة، غير أنه يرى في خطوته تحفيزاً للعودة، أضف كما يقول "من عاد ليرفع الركام يجب أن يجد مطعماً ليأكل".
كانت عيتا الشعب واحدة من أهم القرى الحدودية، تنشط فيها التجارة والزراعة، وتعدّ البلدة الأولى بزراعة التبغ وإنتاج زيت الغار وصابونه، فأشجار الغار تنتشر في البلدة كحال شجر الزيتون.
لم تصدق فاطمة طحيني أنّ قدميها وطأتا مجدّداً منزلها الذي احترق بالكامل، غير أنها تبدي سعادتها لعودتها ورؤية شجرة الغار التي تزيّن مدخل منزلها، وعثرت على بذور التبغ أيضاً، غير أن ما يحزنها أنها فقدت كلّ صور أبنائها وغرفة التراث التي تجمع كثيراً من المقتنيات القديمة.
وفاطمة هي واحدة من مزارعي شجر الغار وتنتج الزيت والصابون اللذين يباعان في الأسواق المحلّية ويصدّران للخارج، بحسبها، يوازي "زيت الغار ضعفين وثلاثة أضعاف سعر زيت الزيتون لأهميّته وفوائده، غير أننا خسرنا موسمين منه، أسوة بقطاع التبغ الذي راح علينا هذا العام أيضاً".
لم تُبقِ الحرب شيئاً من عيتا الشعب، محت الغارات كلّ تفاصيل البلدة التي كانت لا تنام وتعجّ بالحياة وتزدهر بالتجّار والمراكز الصحّية وغيرها، كل شيء في البلدة تبدّل.
البرد القارس الذي يرافق شتاء عيتا الشعب دفع الأهالي لإشعال الحطب للتدفئة، فكثيرون يمضون نهارهم في البلدة ويعودون أدراجهم نحو قرى النزوح.
لا مقوّمات للعودة يقول أبناء البلدة، لا شبكات للكهرباء ولا مياه حتى الاتّصالات مقطوعة فالإرسال مفقود، ليس فقط في عيتا بل في غالبية القرى الحدودية، فإصلاح شبكات الإرسال لم يبدأ بعد بانتظار الثامن عشر من شباط وما سيحمله من انسحاب للإسرائيلي أو بقائه في عدة تلال، المؤكد أن أبناء تلك القرى معزولون تماماً عن العالم الخارجي، ومع ذلك تجد لديهم راحة أنهم عادوا إلى مسقط رأسهم.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك