بين التراثي والأثري والتقليدي، فوارق كبيرة في تصنيف المباني القديمة، وإن اختلطت على بعض الناس تسمياتها. جميع هذه المصنفات موجودة في لبنان، لكنها تختلف بين بناء وآخر بحسب حالته ووضعه التاريخي، وهي تتوزع بين أنماط متنوعة على امتداد الوطن لارتباطها بتوفّر المواد الأساسيّة في كلّ منطقة، كالحجر الرملي أو الحجر الصلب أو الطين أو غيرها. العديد من هذه المنازل مأهولة بالسكان. فهل ما زالت آمنة للعيش فيها؟ وما هو واقعها القانوني؟
جسرٌ حجريٌّ معقود، يفصل بين الحاضر والماضي، بين إسفلت الطريق العام وقناطرَ نحتتها أزاميل الأجداد، يوصلنا إلى باحة خارجية صغيرة تحتضنها غرف من الاتجاهات الثلاثة، ويعلوها قرميدٌ هرِمٌ جرَّدته السنوات من صفاء لونه الأساسيّ، فاستأثَرَ به لون القِدَم.
في الداخل، تبرز مظاهر اليسر الماديّ لبانيه، حسن أبو شقرا، الجدّ الثاني لساكنيه الحاليين، فالجدران المزينة برسومات مختلفة، وخشب السقف ذو الجودة العالية، خير دليل على ذلك.
هذا البناء المؤلف من ثلاث طبقات، بُدئ العمل به منذ العام 1910، وانتهى في العام 1925. الطابق السفلي من الحجر المعقود والجدران المزدوجة (الكلّين)، كان يُستخدم لحفظ المنتوجات الزراعية، كونه معزولاً عن التأثيرات الجويّة الخارجية. يليه الطابق الأول، المسقوف بالخشب، وكان مخصصاً لمعيشة الأسرة. فيما الطابق الثاني، كان عبارة عن "مضافة" مخصصة للزوار والضيوف.
تقطن اليوم في هذا البيت أربع أسر من أبناء العمومة، لكلّ منها مسكن خاص منفصل عن غيره. يخبرنا محسن أبو شقرا عن إيجابيات العيش في بيت قديم وسلبياته، فيقول "إن البيت الحجريّ القديم لا يتأثر بعوامل الطبيعة والطقس، كالحرارة والبرودة والرطوبة، وغرفه أكثر اتساعاً من تلك الحديثة. هذا بالإضافة إلى الرابط العاطفي للحفيد ببيت أجداده، لكنه في المقابل، يفتقر إلى التنسيق المريح للغرف وللخدمات. فمع تغيُّر مستلزمات العيش، بات من الضروري إدخال تجهيزات جديدة إلى البيت القديم، لم يكن مؤهلاً لاستقبالها أصلاً، مثل الحمامات وشبكات المياه، وما تتطلبه من مجارٍ للصرف الصحيّ، بالإضافة إلى التمديدات الكهربائية".
في الخلاصة، هو يفضّل العيش في بيت مبنيّ على الطراز الحديث، رغم العاطفة التي تربطه بهذا البيت.
على مسافة، لا تبعد أكثر من مئات الأمتار، دخلنا إلى بيت مبنيّ بنمط آخر، في حقبة زمنية مختلفة. هو البيت الجبلي التقليدي، ذو الجدران الحجريّة المزدوجة والسقف الترابيّ. لكنَّ الأخير استُبدِل بالإسمنت منذ العام 1956.
ندخل إليه وكأننا نتوغّل في الزمن، ما زالت "غرفة الزيت" بخوابيها الضخمة، والجدران الداخليّة المطلية بالقشّ والطين شاهدة على عقود مضت. هذا البناء المؤلف من طابقين أُنجز في العام 1183 هجري، أي بين عاميّ 1769 و1770 ميلادي، هذا ما يُظهره حجرٌ منحوت، نُقش عليه اسم صاحب المنزل وسنة الانتهاء من بنائه: "الشيخ أحمد شروف 1183".
يؤكّد ساكنوه الحاليون أنهم لا يفضّلون البيت الحديث عليه، فالعيش فيه صحيّ ومريح، بالإضافة إلى أنه يحمل عبق الماضي الجميل.
نمط آخر من البناء، كان رائجاً جداً في الجبل، خصوصاً في القرى ذات الانحدار، هو "العقد". والعقد، بناءٌ تلتفُّ جدرانه الحجريّة عند ارتفاعٍ معيَّن لتشكّل السقف أيضاً، فلا يظهر من الداخل إلا الحجارة، أما من الخارج، فتُغطى حجارة السقف بالطين وتُعالج "بالمحدلة" لتصبح أكثر تماسكاً.
هذه البيوت مقاومة للعوامل الطبيعية، مما يجعلها صحيّة للعيش وجميلة المنظر.
أسباب تنوّع العمارة اللبنانيّة
يقول منسّق اللقاء العمراني في المشرق العربي، الدكتور حبيب صادق لـ "نداء الوطن": "مرّت العمارة في لبنان بعدة مراحل زمنيّة ميّزت الأنماط المعمارية أو صبغتها بصبغتها، فهناك الحقبة العثمانية، والمملوكية وصولاً إلى الرومانية. أما غالبية المباني التي ما زالت حية، فهي إما مملوكية أو عثمانية. تضاف إليها مجموعة من المباني المتفرّقة، الصليبيّة وغيرها، كالقلاع والحصون والأبراج الموزعة على مساحة الوطن. أما العمارة المحليّة، أو عمارة عامة الناس، فتلك مرتبطة بالمناخ وبالجغرافيا وبمواد البناء المتوفّرة في كل منطقة، فإما تكون من الحجر، كما في جبل لبنان. إما من الطوب الطيني الذي يجتمع أحياناً مع الحجر في بعض المباني، كما عكار والبقاع، مع سطح ترابي فوق ألواح خشبيّة، أو سطح من القرميد، الذي بات معتمداً منذ بدايات القرن العشرين قبل استخدام الإسمنت".
"لذلك، لا يمكننا- بحسب صادق- القول إن هناك بيتاً لبنانياً، أو نمطاً لبنانياً، لأنه مكوّن من أنماط تقليدية عديدة تعبّر عن الحقبة التي بني فيها. هذا لا يعني أنها لا تدلّ بالمطلق على خصوصية لبنانية. ففي بعض المراحل التاريخيّة المحدّدة، أخذت البيوت اللبنانيّة طابعاً ميّز كلّ مرحلة، مثل قصور المعنيين والشهابيين وغيرهم، في الحقبة العثمانية".
الفرق بين الأثري والتراثي والتقليدي
منسّق اللقاء العمراني يتحدث عن "توثيق الجامعة اللبنانية أنماطاً عدة، منها في غربي بعلبك والمحيدثة وصولاً إلى راشيا. البيوت القديمة في المحيدثة، مثلاً، كلها من الحجر مع سقف قرميد، كون المجتمع المحلي تأثّر بالفرنسيين، خصوصاً المغتربين منهم، فكان تعبيراً برجوازياً عن الحضور الفاعل في مناطقهم" يتابع "هناك خطأ شائع بين الناس بحيث يصفون البيوت القديمة بالأثريّة، فعندما نقول بيتاً، لا يمكننا إضافة صفة الأثري إليه، لأن الأثر هو القديم الميت، الذي لم يبقَ منه سوى الأطلال، أما البيوت الحيّة، فهي إما تراثيّة أو تقليديّة. البيت التراثي، هو كل بيت ذي قيمة معنوية أو معمارية، كبيت فيروز، على سبيل المثال. أو غيره من البيوت التي تمثّل حدثاً معيناً، أو زمناً معمارياً، كالمكتبة الوطنيّة في بعقلين وما يشبهها، وهي المباني التي ما زالت حيّة، منها التراثيّة التقليدية، كتلك التي تتكرر لتصبح دالة على منطقة بحد ذاتها أو نمطاً محدداً، مثل القصور والبيوتات الكبيرة. أما البيت التقليدي، فهو بيت عامة الناس، المنتشر في المناطق كافة وفي المدن القديمة".
هل ما زالت المباني القديمة آمنة؟
المباني القديمة، بحسب صادق "أثبتت جدارتها من الناحيتين البيئية والصحية، فبالإضافة إلى أنها عامل مساعد في ترشيد استخدام الطاقة وحفظ الحرارة والبرودة، لها أيضاً دورٌ أساسيّ في خلق جوّ صحيّ يتعلّق بالرطوبة والحرارة".
من جهته، يقول المهندس المدني شادي سالم "إن متانة المباني القديمة أو عدمها ارتبطت بعوامل عدة، منها نوع وحجم الحجر، وصلابة الأرضيّة، وجودة العمل، لذلك لا يمكن للمهندس أن يعطي رأيه بالبيوت القديمة أو التاريخية بشكل عام. كما لا يمكن مقارنتها بالمباني الحديثة، كون الأخيرة باتت تُصمَّم لتكون مقاومة للزلازل والهزات الأرضيّة، لكن أيضاً بنسب محدّدة ومتفاوتة، فمنها ما هو مصمّم ليتحمّل زلزالاً بقوة خمس درجات، ومنها ما هو مصمّم ليتحمّل زلزالاً بقوة سبع درجات، وهذا يلزمه إضافة 40 في المئة من كمية الإسمنت والحديد الموجودة في المباني غير المقاومة للزلازل. ومنها ما تتحمّل الزلازل حتى تسع درجات، لكن كلفتها تصبح مضاعفة أو أكثر". هنا لا بدّ من التنويه بأن عمر الإسمنت أقصر من عمر الحجر الصخري، وهو مرتبط بالعوامل الطبيعية، فإذا حصل تسرباً للمياه من خلال إسمنت السطح، ينخفض عمره المفترض حتى يصل إلى عشرين عاماً، وإذا كان محمياً فقد يصل عمره الافتراضي إلى 70 أو 80 عاماً، وفي أفضل الأحوال يصل عمره الافتراضي إلى 100 عام. تؤثّر على كل ذلك أيضاً طبيعة المنطقة الجغرافيّة والمناخية.
بالعودة إلى المباني القديمة، المصنوعة من الكلّين (صفّان من الحجارة بينهما تراب وحجارة صغيرة)، وكونه ليس متماسكاً أو ملتصقاً ببعضه، يمكن "أن يقاوم، بحسب المهندس سالم الزلازل، لكن ضمن حدود معينة. لذلك نرى أن هناك مباني سقطت في الزلزال الذي ضرب لبنان في العام 1956، وهناك أخرى بقيت صامدة".
إذاً، يمكننا اعتبار البيوت التي صمدت في وجه الزلازل خلال العقود الماضية آمنة، ما لم يطرأ على هيكلها أي تصدّع أو تشقّق واضحين.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك