تقف الجمهورية الإسلامية في إيران أمام أخطر مفترق طرق منذ نجاح "الثورة الإسلامية" في 11 شباط 1979. أسياد نظام الملالي في موقف لا يحسدون عليه إطلاقاً، فالوضع الداخلي قريب من بلوغ نقطة الانفجار اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، فيما تجد إيران نفسها خارجة من "هزيمة استراتيجية" مذلّة قضت بشكل شبه كامل على عقود من "الاستثمارات الطائلة" والجهود المضنية لتصدير ثورتها وتمتين أذرعها في المنطقة. وبعد عودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، تختبر طهران "الامتحان الأصعب" بين "تنازلات مهينة" لحفظ وجود نظامها المأزوم، وبين "تعنّت قاتل" سيُحتّم مقاربة غربية أكثر حزماً لا تحتمل إيران كلفتها الباهظة.
إيران بعد 16 أيلول 2022، يوم مقتل مهسا أميني التي أضحت "أيقونة" ثورة "امرأة، حياة، حرّية"، لم تعد كما كانت بعد نجاح "الثورة الإسلامية". إيران تتغيّر "من تحت" بشكل عميق وسريع. وهذا التحوّل الجذري الذي طال شرائح واسعة من البنى التحتية المجتمعية، يفرض نفسه في لعبة موازين القوى الداخلية. بعض أركان النظام يُدركون هذا الواقع جيّداً، الأمر الذي دفع الرئيس "المعتدل" مسعود بزشكيان وحكومته إلى الضغط على المكابح في ما يتصل بتطبيق إلزامية ارتداء الحجاب، بضوء أخضر من المرشد الأعلى علي خامنئي المتوجّس من أن يشهد انهيار الجمهورية الإسلامية قبل تسليمه "الشعلة".
شوارع إيران ومقاهيها وجامعاتها غدت مكتظة بالفتيات والنساء غير المحجّبات، اللواتي يستخدمنَ حرّيتهنَّ في اللباس كسلاح فعّال وموجع في وجه الملالي وشرائعهم وقوانينهم، مع علمهنَّ أن سطوة النظام عليهنَّ ضعفت بفِعل نضالات وتضحيات وشجاعة الثائرات والثوار. صحيح أن لأنصار النظام المتزمّتين عقائدياً حضورهم، بيد أن التبدّلات الجوهرية في الوجدان الجماعي والمزاج الشعبي استحالت خطراً داهماً على النظام الثيوقراطي الحالي، الذي لا يستطيع مواكبة الحداثة، وتالياً تمادى في استنزاف تاريخ صلاحية ديمومته، وهو "شُيّد" أصلاً على "حجر زاوية" متصدّع ومتناقض مع معطيات الحياة. وما كان ينقص طهران سوى أزمتها الاقتصادية المستفحلة لتضيّق الخناق بشدّة حول رقبة النظام.
التحدّيات الوجودية الداخلية التي تعصف بالجمهورية الإسلامية تقابلها أخرى خارجية تتقاطع وتتكامل معها. ترامب يُريد إبرام اتفاق نووي جديد مع إيران، مع إبقاء تلويحه بالخيار العسكري للضغط على طهران لكي تقدّم التنازلات الكفيلة بالوصول إلى صفقة تحاكي الشروط الأميركية الصارمة، في وقت تبتغي فيه القيادة الإسرائيلية استغلال "فرصة تاريخية" قد لا تتوفر مجدّداً. "العقل الأمني" الإسرائيلي ينظر إلى إيران اليوم على أنها دولة معادية في حال من الوهن الجسيم، بعدما فكّك "إمبراطوريّتها" الإقليمية وهشّم أذرعها وأبعد "التموضع الإيراني" من على حدود الدولة العبرية الشمالية والجنوبية الغربية أو حجّمه، فضلاً عن تحييده وإضعافه "جبهات الإسناد" البعيدة من العراق وصولاً إلى اليمن، حتى قبل وقف النار في غزة.
هذا المشهد يفتح شهية إسرائيل لتوجيه ضربة تضع حدّاً نهائياً للبرنامج النووي الإيراني، الذي تخطّى بأشواط فادحة الخطوط الحمراء الغربية. يتوقع مراقبون أن يُفاتح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ترامب بالأمر حين يجتمع به في البيت الأبيض الأسبوع المقبل لجسّ نبضه، مدفوعاً بعزيمة لحسم "الكباش الجيوسياسي" مع إيران عسكريّاً. وهذا التصميم لا يقتصر على حكومة نتنياهو، التي تبقى متأنية وحذرة حتى اللحظة، بل يتعدّاها إلى قادة عسكريين وأمنيين إسرائيليين وأوساط في المعارضة، الذين يرغبون في "تصفية الحساب" وقطع ما يصفونها بـ "رأس الأفعى".
يُفضّل الرئيس الجمهوري حلّ القضية بالطرق السلمية وفرض "السلام من خلال القوّة"، من دون الاضطرار إلى استخدام العصا، إلّا أن ترامب لن يقف في وجه الدولة العبرية إن استُنفدت الوسائل الدبلوماسية واتخذت تل أبيب قراراً بتوجيه ضربة شاملة لإيران، بل سيوفر لها الدعم الضروري لإنجاح حملتها. لن يتهاون ترامب أبداً في التعاطي مع طهران ولن يسمح بـ "إيران نووية" بأي وسيلة ممكنة، وقد يُبادر إلى تشجيع إسرائيل على ضرب إيران، إن وصلت المحادثات النووية إلى حائط مسدود من جديد.
إيران "ترقص" على حافة "الهاوية النووية" بتخصيبها اليورانيوم بكميات متصاعدة ومستويات قريبة من تلك اللازمة لصنع سلاح ذري. بعيداً من كلّ ادّعاءات "الانتصار" والسرديات التافهة، فقدت طهران "بيادقها" التي كانت تستخدمها أو تهدّد بها لتحسين "وضعيّتها" حول طاولة المفاوضات، إنما لا تزال تحاول الخروج من تداعيات ورطة "طوفان الأقصى" بأقلّ قدر ممكن من الخسائر وبما يحفظ لها الحدّ الأدنى من ماء الوجه أمام مجتمعها المسحوق بنيران التضخّم والأزمات السوسيوثقافية، التي يُراهن معارضون على أن تضع المسمار الأخير في نعش نظام الملالي.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك