غالباً ما تشير المصطلحات والأسماء إلى مضامينها. فالدولة تستوجب توافر العناصر الثلاثة: الإقليم، الشعب والسلطة. والحزب، يعني مجموعة أفراد تربطهم أهداف سياسية وفكرية منسجمة، يسعون إلى تنفيذها من خلال المشاركة في الحكم، عبر السلطتين التشريعية أو التنفيذية أو الإثنين معاً. وتخضع نشأة الأحزاب وتأسيسها لمعايير وشروط قانونية تختلف بين دولة وأخرى.
في لبنان، لا يوجد تشريع خاص بها، الحزب هو جمعية مثل سائر الجمعيات السياسية والثقافية والاجتماعية والبيئية. لا يتطلّب تشكيلها مرسوماً وزاريّاً، بل إعلام السلطة المعنية (وزارة الداخلية والبلديات) بما يعرف بالعلم والخبر، استناداً إلى القانون العثماني الصادر عام 1909. استطراداً، تجدر الإشارة، إلى أنّ هذا التشريع الذي مرّ عليه 116 سنة، لا يحتاج إلى تعديلات، فهو رغم قِدَمِهِ، لا يزال يُحاكي الحداثة وتطوّر الأنظمة السياسية، كونه من أكثر القوانين ليبرالية ومستمدّاً من الجمهورية الفرنسية الثالثة (1870 – 1940).
في القاموس والأدبيات السياسية المحليّة المُتعارف عليها، عندما نقول كلمة "القوات" يُفهم بها حزب "القوات اللبنانية" و "الكتائب" – "الكتائب اللبنانية" و "الاشتراكي" – "الحزب التقدّمي الاشتراكي" و "الحركة" – حركة "أمل"... هكذا دواليك. أمّا لفظة "الحزب"، وللغرابة فالتصقت إلى حدّ ما بـ "حزب اللّه"، حتّى يُخيّل لأي أجنبيّ لا يفطن الواقع اللبناني، أنّه يُجسّد أعلى مراتب الشأن العام وأرقى التصنيفات الحزبية.
المفارقة العجيبة، التي تعكس تناقض المفاهيم، هي أن "الحزب" (المنظّمة) الأقوى سياسيّاً (كان)، هو الأكثر خروجاً عن دولة القانون، والوحيد الذي لم يتقدّم حتى اللحظة ببيان رسمي يُعلم فيه الحكومة بتأسيسه. والأسوأ، أن الدولة التي لم يُخطرها "الحزب / الجمعية" بوجوده القانونيّ أسوة بباقي الأحزاب، سخّرت معظم أجهزتها ومرافقها ومؤسّساتها (من دون تعميم) لأجل خدمته وتمتين سطوته عليها، بما يُشبه متلازمة ستوكهولم: عشق الضحية لجلّادها.
كما أنّ "حزب اللّه" لا يرفع ميزانيته السنوية ومصادر دخله "الشريف" وأسماء "أشرف الناس" المنتسبين إليه، ولا يُبلغ وزارة الداخلية بأعضاء هيئته الإدارية الجدد أو انتخاب أمينه العام، ولا يسمح للقوى الأمنية بتفتيش أماكن اجتماعاته، بحسب المادة 18 من قانون الجمعيات. أمّا مؤسّساته التربوية والصحيّة والتجارية والإعلامية، فشرّعها وفق الأصول المرعية الإجراء تحت شخصيات معنوية لضمان عملها وتحقيق وظيفتها.
الغرب وعقدة العقيدة
يبقى السؤال الأساسيّ الذي يطرح ذاته هو: لماذا لم يتحوّل "حزب الله" إلى حزبٍ كسائر الجمعيات في لبنان؟ صعب عليه خلق هيكلية حزبية شكليّة (منفصلة عن تنظيمه العسكري والأمني حفاظاً على سريّته) ورفعها إلى وزارة الداخلية لأخذ العلم والخبر؟ أهو كسل بيروقراطي أم لديه أسباب أخرى؟
لفهم هذه الإشكالية، تجب العودة إلى الأصول الفقهية والشرعية، فبعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران (1979)، أصدر الإمام الخميني فتوى يُشير فيها إلى أنّ "الأحزاب في الساحة الإسلامية هي ظاهرة غربية، والتنظيم الحزبي هو من موروثات الغرب". وقال إنّ "العلاقة بين الجماهير وولاية الفقيه ينبغي أنّ تتمّ مباشرة مع علماء الدين لنقل الأوامر والنهي". وبالفعل بعد تلك الفتوى، أقدم "حزب الدعوة الإسلامية" الذي نشأ في العراق وبرز في لبنان والبحرين وسوريا وإيران وغيرها من بلدان المنطقة، وأسّس لإطلاق "حزب الله"، على حلّ نفسه عام 1980.
إذاً، المسألة تتخطّى الواقع اللبناني وتعقيداته الداخلية، فأبجديته العقائدية والثقافية لا تتواءم مع علم الأحزاب ومرتكزات الدولة الوطنية وديمقراطيتها الحديثة. فـ"الحزب" الذي ليس بحزبٍ، مُسيّر بعقيدة دينية لا تقبل التبديل أو التغيير، وما مشاركته في الحياة السياسية النيابية والحكومية، سوى مطيّة بديلة عن الاحتلال المباشر للدولة، واعتماد سياسة قضم الحكم وسلطاته التشريعية والتنفيذية والقضائية، بانتظار الظروف الملائمة لتحقيق مشروعه، على قاعدة الغاية تبرّر الوسيلة.
أما فكرة "المقاومة" فهي ليست حركة نضالية محدّدة بتحرير الأرض، بل صفة ملازمة وملتصقة به جوهريّاً، أكانت الأرض محتلّة أم لا. أكانت إسرائيل موجودة أم لا. لذلك عرّف "الحزب" نفسه بأنه "المقاومة الإسلامية في لبنان" وليس حصراً، إذ امتدّ نشاطه إلى العراق وسوريا واليمن، وأي بقعة يُرشده إليها مرشد الجمهورية الإسلامية، مثلما أرسل مقاتليه إلى الحرب البوسنية (1992).
في كتابه "أيام مع الخميني"، يشير الكاتب أسعد حيدر الذي رتّب لقاء الإمام الخميني مع حسنين هيكل في باريس، إلى أنه سأل الأخير رأيه بالإمام، فقال له: "أعتقد من بعد كلامه لي "سنقاتل حتى يغرف السّيف في الدّم"، إنه رصاصة انطلقت في القرن الرابع عشر ميلادي باتجاه القرن العشرين".
انطلاقاً من هذا التوصيف الخارق، الرؤيوي والدقيق، ينتمي "حزب اللّه" (وليد الحرس الثوري) عملياً وذهنيّاً، إلى ما قبل نشوء الدولة الحديثة المعروفة بمعاهدة وستفاليا (1648). الرصاصة التي خرجت من فوهة الجمهورية الإسلامية في إيران، استهدفت المنطقة برمّتها، لكنها أصابت في الصميم شيعة لبنان، وعوض أن تستورد إيران فكر الإمام المغيّب موسى الصدر ونظرته إلى نهائية الكيان، ووصايا الإمام محمد مهدي شمس الدين لأبناء ملّته، وأنوار العلّامة هاني فحص والمفتي علي الأمين وغيرهم من العلماء والمرجعيات، ألقت بنار ثورتها المدمّرة لمفهوم السيادة الوطنية في جبل عامل وسلخته عن لبنان أيديولوجيّاً وسياسيّاً، وأعادت المجتمعات الممانِعة قروناً إلى الوراء، على الرغم من شكليات التطوّر ومظاهر الحداثة وفوائض القوّة العسكرية والمالية.
ختاماً، إذا كانت الدوافع الدينية والسياسيّة المتلائمة مع المعطيات الإقليمية والدولية التي ساهمت آنذاك في نشأة "حزب الله" مطلع الثمانينات، فهل تؤدّي المتغيّرات الكبرى مع تراجع النفوذ الإيراني، إلى رؤية جديدة في مقاربته للتركيبة اللبنانية وتوازناتها المعقّدة؟ أم أنّ ما كُتب عقائديّاً وفتوويّاً قد كُتب؟ هل يُضيّع قطاره الأخير في رحلة العودة إلى كنف الدولة الحديثة ويَدفع اللبنانيين إلى البحث عن نظام جديد، لا سيّما أن الطروحات الفدرالية (في حدّها الأدنى) والانفصالية (في حدّها الأقصى)، باتت متقدّمة وحامية داخل النفوس والقواعد الشعبية المسيحية وتلقى صداها أيضاً داخل الأوساط الإسلامية؟
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك