لم تدخل الولايات المتحدة الأميركية الحرب العالمية الأولى التي اندلعت عام 1914، وظلت خارج الصراعات الدولية حتى نيسان 1917. ما كادت روسيا تخرج من هذه الحرب بعد نجاح الثورة البولشفية بقلب الحكم الإمبراطوري البطرسي، حتى دخلتها الولايات المتحدة بقوة بعدما فشلت في منع وصول الشيوعيين إلى السلطة. على الرغم من فوز تيار الإمبراطورية، ظلّت هناك نزعة إلى العزلة والابتعاد عن المشكلات الكبرى، ربما كانت هناك إرادة أميركية بترك العالم القديم ينهار ويفقد رجولته، من بريطانيا إلى فرنسا وألمانيا وروسيا، حتى تتدخل هي وتبسط سيادتها وترفع علمها. وهي ترفع هذا العلم اليوم.
أسباب عدة، جعلت واشنطن تدخل الحرب العالمية الأولى: العطف على الفرنسيين الذين ساعدوها في حرب الاستقلال وكانوا يعانون الأمرّين في القتال ضد الألمان على جبهات الألزاس واللورين والمارن وغيرها، وروابط اللغة والثقافة مع بريطانيا، وحرب الغواصات الألمانية في شكل مباشر.
في 8 أيار 1915 أغرقت الغواصات الألمانية الباخرة الأميركية لوزيتانيا وسقط على متنها نحو ألف قتيل، ولكن واشنطن نامت على جرحها بعدما وعدتها ألمانيا بعدم التعرّض لبواخرها. مطلع عام 1917، أعلنت ألمانيا أنها ستعود إلى حرب الغواصات الشاملة وأدخلت الملاحة الأميركية ضمن أهدافها، بعدما شعرت أن هناك إمدادات تصل إلى أعدائها بحراً. أمام هذا الواقع، أعلنت واشنطن الحرب في نيسان من العام نفسه.
القتال في أوروبا
بلغ عدد الجنود الأميركيين الذين نُقلوا إلى أوروبا نحو مليون ونصف المليون جندي، وقد أعلن الرئيس وودرو ويلسون أن أميركا لا تطمع في مستعمرات أو تعويضات، ولا تضمر شرّاً للبلدان التي تحاربها، بل تسعى إلى القضاء على أنظمة الحكم الاستبدادية وإلى تعزيز الديمقراطية في العالم. ويبدو أن هذا الشعار لم يتغيّر.
في 8 كانون الثاني 1918، ألقى ويلسون خطاباً أمام الكونغرس دعا فيه ألمانيا والدول المتحالفة معها إلى عقد صلح شريف مع الحلفاء على أساس 14 بنداً عُرِفت في ما بعد بمبادئ ويلسون، ومن أهمها البند 14 وينصّ على "تأسيس عصبة أمم تعمل بموجب مواثيق تعطي الدول الكبرى والصغرى على السواء ضمانات متبادلة تتعلّق باستقلالها السياسي وكيانها الإقليمي".
ونصّت البنود الأخرى على إعادة رسم خريطة أوروبا لأنها طالبت بترك الحرية لروسيا في اختيار نظامها السياسي وسحب القوات الألمانية من فرنسا وبلجيكا وإيطاليا ورومانيا والمجر وصربيا والجبل الأسود، وإعطاء السيادة التامة للمناطق التركية في الإمبراطورية العثمانية وتأكيد حق الشعوب الأخرى الخاضعة لها في التدرّج نحو الاستقلال، ومن ضمنها الشعوب العربية التي وضع بعضها تحت الانتداب.
اعتباراً من تموز 1918، بدأ الألمان يتراجعون وسقطت السلطنة العثمانية ودخلت قوات الحلفاء لبنان وسوريا وفلسطين، واستسلمت النمسا ودعت ألمانيا الرئيس ويلسون إلى التفاوض على أساس مبادئه الـ 14 والتوصل إلى صلح شريف. ولكن ما كُتب كان قد كُتب. وأتت هذه الدعوة متأخرة وحصل عصيان مدني في ألمانيا وتمرّد بحارة الأسطول، وانتقلت الثورة الداخلية إلى برلين في 9 تشرين الثاني، فتنازل وليم الثاني عن العرش ولجأ إلى هولندا، وسقط النظام الإمبراطوري وأعلنت الجمهورية وتولى الاشتراكيون الحكم وطلبوا وقف القتال، وقبلت ألمانيا شروط الاستسلام في 11 تشرين الثاني 1918، وانتهت الحرب وتغيّر وجه أوروبا والعالم، وبقي فيه ثلاثة أقوياء أميركا وفرنسا وبريطانيا.
في أواسط كانون الأول 1918 وجه ويلسون خطابه السنوي عن حال الأمة إلى الكونغرس وغادر بعد ذلك إلى باريس لحضور مؤتمر الصلح. كان ويلسون الأكثر مثالية، وسعى إلى تعزيز المبادئ الديمقراطية عن طريق احترام حرية الشعوب التي حررتها جيوش الحلفاء في تقرير مصيرها، ولكن الاتفاقات بين فرنسا وبريطانيا كانت سابقة للمؤتمر، ولذلك دخل ويلسون المؤتمر قوياً وخرج ضعيفاً. ولكن على رغم ذلك، فقد نجح في جعل ميثاق عصبة الأمم جزءاً أساسياً من معاهدة فرساي. ولذلك كانت هذه العصبة صناعة أميركية، وكان لواشنطن الفضل في صياغة العالم.
أسّست عصبة الأمم وبقيت خارجها
ولكن الحلم لم يكن على مستوى الواقع، وكان من المستغرب أن تبقي الولايات المتحدة نفسها خارج هذه العصبة. فبعد عودة ويلسون إلى بلاده خذله الكونغرس ولم يوافق على توقيع معاهدات الصلح ودخول عصبة الأمم. ولذلك عادت الولايات المتحدة إلى سياسة العزلة التقليدية المرتكزة على مبدأ مونرو الذي كان أساساً لسياسة أميركا الخارجية منذ العام 1823، حين وضعه الرئيس جايمس مونرو وأقرّه الكونغرس، وينصّ على: منع استعمار جديد في القارة الأميركية، منع الدول الأوروبية من التدخل في شؤون الدول الأميركية وتهديد كيانها واستقلالها، عدم تدخل الولايات المتحدة في الشؤون الأوروبية والوقوف من مشكلاتها موقف الحياد التام.
كان الهدف من تأسيس عصبة الأمم تعزيز التعاون العالمي وضمان تنفيذ الالتزامات الدولية، ومنع الحروب وحماية الأقليات، وحل المشكلات بين الدول بالطرق السلمية مع حق استعمال القوة ضد المخالفين لإرغامهم على الرضوخ للإرادة الدولية، وجعل مقر العصبة في جنيف.
انفجار العالم والثلاثة الكبار
سرعان ما تكشّف أن النظريات ساقطة في التطبيق. فقد فقدت عصبة الأمم دورها بعد أعوام قليلة مع تفاقم الأزمة الاقتصادية العالمية عام 1929، ومع تجدد الأزمات الدولية. فقد غزت اليابان منشوريا عام 1931 وانسحبت من العصبة، تلتها ألمانيا في خريف 1933 بعدما لم يلتزم الحلفاء نزع أسلحتهم. وإذ دخلها الاتحاد السوفياتي عام 1924، هاجم موسوليني الحبشة عام 1935 واحتلّها بعد عامين من دون مراعاة قرارات عصبة الأمم التي انسحب منها أيضاً، فعادت رائحة الحرب تعمّ أوروبا من جديد بين فريق داخل العصبة وآخر خارجها، وعلى هذا النحو اندلعت الحرب العالمية الثانية.
كما في الحرب العالمية الأولى، ظلت الولايات المتحدة خارج الحرب العالمية الثانية وكانت لا تزال منقسمة بين دعاة العزلة ودعاة المشاركة.
عام 1935، وفي خلال أزمة الحبشة جدد الكونغرس قانون الحياد ليمنع تغذية الحرب ويحظّر تصدير الأسلحة إلى الدول المتحاربة من دون استثناء. كان دعاة العزلة شكّلوا لجنة عام 1940 دُعيت "لجنة أميركا أولاً" وكانوا في معظمهم من مجموعات متناثرة ومتعدّدة. أما الفريق الثاني، فكان يعتبر أن مبادئ سامية تجمع بين الولايات المتحدة والدول التي تقاتل النازية والفاشستية في ألمانيا وإيطاليا، وكانوا يعتقدون أنّ الديمقراطية التي هي نظام الحكم في وطنهم مهدّدة بالزوال. ولذلك على الرئيس فرانكلين روزفلت العمل على تعديل قانون الحياد، وقد نجح في إقرار التعديل في الكونغرس في تشرين الثاني 1939. بعد أشهر على بدء الحرب في أيلول 1939، قدّم روزفلت عدداً من الطرّادات البحرية إلى بريطانيا مقابل عقد إيجار للقواعد الجوية والبحرية في جزر الهند الغربية وغيرها لمدة 99 عاماً.
في 11 آذار 1941، بعد أربعة أشهر على إعادة انتخاب روزفلت رئيساً للمرة الثالثة، أقرّ الكونغرس الأميركي قانون الإعارة والتأجير الذي أعطى رئيس الجمهورية حق تقديم المساعدة العسكرية للدول التي يرى أن أمر الدفاع عنها حيوي للولايات المتحدة.
هذا القانون لم يعنِ أن الولايات المتحدة تتدخّل مباشرة في الحرب، ولكن الهجوم على قاعدتها في "بيرل هاربر" في 7 كانون الأول 1941، حرّك الشارع كما حرّكته أحداث 11 أيلول 2001. وكما في الحرب العالمية الأولى، انتقلت القوات الأميركية إلى أرض المعركة. غير المشاركة المباشرة، قدمت واشنطن نحو 50 مليار دولار مساعدات إلى حلفائها. وبعد انتهاء الحرب، تنازلت عنها كلّها. ثلاثة منتصرين كبار جلسوا في يالطا في 11 شباط 1945 يتقاسمون العالم، تشرشل وستالين وروزفلت. بعد هذا المؤتمر وُلدت هيئة الأمم المتحدة وأصبحت حقيقة راسخة في 24 تشرين الأول 1945 وانضم إليها الاتحاد السوفياتي.
الحرب الباردة والحسم الأميركي
في 12 نيسان 1945، توفي روزفلت وخلفه نائبه هاري ترومان الذي اتخذ القرار الصعب بإنهاء الحرب العالمية الثانية بالقوة بإلقاء قنبلتين نوويتين على هيروشيما وناغازاكي. وبعد انتهاء الحرب كانت قوات أوروبا الغربية منهكة وضعيفة، بينما قوات الاتحاد السوفياتي ضخمة، وكانت القوات الأميركية تؤمن التوازن.
بعد الحرب العالمية الثانية رُسمت صورة جديدة للعالم كلّه، ولكن دور الأمم المتحدة سرعان ما تراجع أمام تصاعد حدّة الحرب الباردة، من دون أن يؤدّي ذلك إلى زوال هذا الدور. فقد تدخّلت عبر مجلس الأمن في أكثر من منطقة ساخنة، حيث كان يتوافق الجباران، خصوصاً في الشرق الأوسط بعد حرب 1948. استمرّت الحرب الباردة حتى 1985 عندما بدأت تنهار المنظومة الشيوعية بعد وصول ميخائيل غورباتشوف إلى الكرملين. من دون عسكر على الأرض ربحت الولايات المتحدة الحرب. بسقوط الاتحاد السوفياتي وجدار برلين، أعادت صياغة صورة جديدة للعالم وأقامت الجمهوريات الجديدة في أوروبا الغربية والشرقية والاتحاد الروسي.
حقّ التدخل وقت الخطر
كانت واشنطن مستمرّة في إعادة رسم خريطة العالم كلّه خطوة خطوة، ولكنّ عملية 11 أيلول جعلتها تغيّر استراتيجيتها. الرئيس جورج بوش أعطى لبلاده حقّ التدخل في أي دولة تعتقد أنّها قد تشكّل خطراً عليها، فانطلقت على هذا الأساس الحملة الواسعة ضدّ الإرهاب وكانت محطتها الأولى في أفغانستان والثانية في العراق.
ربحت الولايات المتحدة الحروب العالمية التي خاضتها. أصبحت بقوّتها الذاتية سيّدة العالم التي لا قدرة لأي دولة أو تحالف دولي على معاداتها ومخاصمتها ومقاتلتها.
رئيسان صنعا التغيير الكبير، رونالد ريغن (1981-1989)، وجورج بوش الابن (2001-2009). أتى الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض عام 2017 بعد ثمانية أعوام من حكم الرئيس باراك أوباما. تسلّم دولة قوية لا منافس لها. ولذلك انصرف إلى تحقيق حلم زيادة عظمة أميركا واشتغل على إعادة إحياء الحلم الأميركي على مستوى العالم وما وراء العالم. يتسلّى بخصومه الصغار والكبار ولا يتوانى عن القضاء على بعض أصدقائه ومن صنعوا عهده الرئاسي الأول وصورته حتى يحفظ لنفسه حصرية هذا الحق، بحيث يبدو من يقرّبهم منه مكمّلين للصورة التي يصنعها عن نفسه وعن أميركا. ولذلك أيضاً ينصرف إلى معركة تنظيف أميركا من الداخل ومن بعض من يعتبر أنّهم لا يزالون أعداء لها أو يمكن أن يشكّلوا أي خطر عليها حتى لو كان صغيراً. لم يعد هناك كبار حتى ينافسوه على اقتسام العالم.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك