كتب عماد الشدياق في "نداء الوطن":
رزح اللبنانيون تحت الكثير من الأزمات منذ زمن طويل. لكن في العصر الحديث أعظم أزماتهم كانت اقتصادية ووقعت في العام 2019. إلاّ أنّ العام 2024 تميّز بالكثير من المحطات المتقلّبة... لدرجة يمكن وصفه بـ"عام الصدمات".
لم يكن العام المنصرم مُرّاً بمجمله، بل تخللته محطات خجولة الإشراق. وتلك "بانوراما" لأبرز ما حصل في لبنان من الزاوية الاقتصادية – الاجتماعية:
كانون الثاني: زيادة بالدولارات وانخفاض بالليرات
شهدت ميزانية مصرف لبنان في الأيام الأولى من العام 2024 زيادة في احتياطياتها من العملة الصعبة بواقع 62 مليون دولار أميركي، وارتفعت قيمة الاحتياطيات السائلة إلى ما يقارب 9.3 مليارات دولار. هذا الرقم كان أكثر بقرابة 748 مليون دولار أميركي من حجم الاحتياطيات التي كانت متوفّرة قبل مغادرة حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة نهاية شهر تموز 2023.
تزامناً كان المركزي قد تمكن من امتصاص نحو 1 تريليون ليرة لبنانيّة من الليرات في السوق، لتستقر بعدها الكتلة عند 57.2 تريليون ليرة. وفي بدايات العام 2023، كانت قيمة النقد المتداول بالليرة توازي قرابة 80 تريليوناً، وبذلك تمكن المركزي من خفض قيمة الكتلة النقديّة بنسبة 29% بسنة واحدة.
شباط: "كبيسة" القوانين الضائعة
انتهت مهلة الأشهر الستّة التي منحها حاكم مصرف لبنان وسيم منصوري ونوّابه، لأنفسهم وللحكومة والمجلس النيابي. وذلك لتنفيذ "رزمة الخطوات الإصلاحيّة"، التي اندرجت في حينه ضمن إطار خطّة التعافي المالي. لكن للأسف التقدّم في تلك الخطة كان معدوماً نتيجة الخلافات السياسية وحرب المساندة والتعنّت. تزامناً كانت الحكومة تستعد لمناقشة مسوّدة مرسوم مشروع القانون الخاص بإصلاح وضع المصارف، والذي كان يُفترض أن يدمج مسوّدات مشروع قانون إعادة التوازن إلى النظام المالي، ومسوّدات مشروع قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي... إلا أنّ هذا كلّه لم يحصل.
آذار: الاستقرار... إلى الأمام
اختتم مصرف لبنان سنويته الأولى لـ"عمليّة ضبط سعر الصرف"، التي نجحت بعد تجفيف الليرات من السوق وضبط المضاربين، وخصوصاً بعد تحوّل الاقتصاد إلى "الدولرة" شبه الكاملة، التي ساعدت على ذلك ولو على حساب أهمية العملة الوطنية... فشهد سعر الدولار استقراراً متيناً، ما زال مستمراً إلى اليوم عند 89500 ليرة.
نيسان: التضخّم يتراجع
كشفت إدارة الإحصاء المركزي أرقام مؤشّر أسعار المستهلك، التي أظهرت انخفاضاً ملحوظاً في معدّلات التضخّم التي وصلت في هذا الشهر إلى أدنى مستوى لها مقارنة بالفترات المماثلة من الأعوام الثلاثة الماضية. إذ بدأ اللبنانيون يحصدون ثمار استقرار سعر الصرف. صحيح أن الأسعار واظبت على الارتفاع، لكن التحسّن تمثّل في خفض وتيرة "الارتفاع الجنوني" بعدما تم تحييد عامل تدهور قيمة الليرة.
أيار: التأقلم في ظل الاقتصاد المأزوم
بدأ يتكشف في هذا الشهر توجّه جديد في القطاع الخاص عنوانه "التأقلم مع اقتصاد مأزوم". سبب ذاك التأقلم كان استقرار سعر الدولار الذي اندرج في سياق عوامل عدة: أولها دولرة الاقتصاد وكبح الكتلة النقديّة بالليرة اللبنانيّة، وثانيها التوازن في المالية العامة نتيجة احتواء العجز في الموازنة، وثالثها تسجيل ميزان المدفوعات فائضاً طفيفاً بعدما كان يسجّل عجزاً سنوياً معدله 5 مليارات دولار منذ بداية الأزمة.
حزيران: الادعاء على رياض سلامة
اتخذ مصرف لبنان قرار الادعاء على حاكمه السابق رياض سلامة أمام المحاكم الفرنسيّة، وذلك في ملف شركة "فوري"، التي قامت النيابات العامّة لدى عدّة دول أوروبيّة بالتحقيق في شأنها، والتي ترتبط بأكثر من 330 مليون دولار أميركي من العمولات التي تقاضتها الشركة المسجّلة باسم شقيق الحاكم السابق، رجا سلامة، من أموال مصرف لبنان بموجب عقد وهمي. كما توسعت التحقيقات لتشمل العديد من الشركات الأخرى التي قامت بعمليّات مشابهة، مثل شركة "أوبتيموم". صحيح أنّ القرار جاء متأخّراً، بعد نحو سنة من مغادرة الحاكم السابق، وتولّي "القيادة الجديدة" هناك سدّة المسؤوليّة، لكّنه كان في مساره الصحيح.
تموز: خطة صوَرية ومجحفة لاسترداد الودائع
شهر الخطّة الحكوميّة الجديدة، التي رمت إلى إعادة هيكلة القطاع المصرفي والتعامل مع أزمة الودائع. مسوّدة مشروع القانون لم تُطرح على طاولة مجلس الوزراء ببنود واضحة، ولم يُكتب لها أن تصل إلى مجلس النوّاب. فاقتصر أمرها على تسريب في الإعلام، كان كفيلاً بإجهاضها. الخطة تتناول ما يُقارب 86 مليار دولار من الودائع، التي صُنّفت بين "مؤهلة" قيمتها قرابة 46 مليار دولار، أو 53% من مجمل الودائع "غير مؤهّلة". وفي الحالتين كان سينتظر المودع تقسيطها 11 سنة.
في الوقت نفسه، انتهت ولاية مجلس إدارة جمعية مصارف لبنان ولم تتمكّن من انتخاب أعضاء ورئيس جديد. أمّا السبب فكان عدم اكتمال النصاب في جلسة اليوم الأخير (10 تموز) بعد "صراع" بين المصارف الكبرى ومصارف متوسطة وصغيرة، (عددها 15 مصرفاً) شكّلت مجموعة في ما بينها وتطالب إلى اليوم بمقعدين ضمن مجلس الإدارة. لكنّ المفاوضات بين المصارف فشلت وأدّت إلى انفراط النصاب من دون التمكّن من عقد جلسة جديدة.
آب: عيون شاخصة في سماء بيروت
في مقابل تراجع أعداد الوافدين إلى لبنان نتيجة بداية الاستهدافات الإسرائيلية لضاحية بيروت، شهد مطار رفيق الحريري الدولي حركة مغادرة للبنانيين وأجانب افتتحها شهر آب، واستمرت طوال أيام الحرب حتى تشرين الثاني (نهاية الحرب).
وعلى الرغم من الشكاوى من فقدان الحجوزات وارتفاع الاسعار، استطاعت شركة طيران الشرق الأوسط (MEA) مواصلة نقل المسافرين من وإلى لبنان. تحوّلت الشركة إلى محطّ اهتمام وسائل الإعلام العربي والعالمي، وذلك لقدرتها على تسيير الرحلات بعد تراجع أغلب الشركات الأجنبية عن ذلك. وكذلك لحِرَفيتها في "اقتناص" فرصة وجود الرعايا الأجانب بلبنان من خلال توزيع إجلائهم بما يتماشى مع حماية مطار رفيق الحريري الدولي من القصف الإسرائيلي بالتعاون مع الجيش اللبناني، وزيادة عدد رحلات الشركة.
أيلول: توقيف سلامة يتزامن والحرب المدمّرة
أصدر قاضي التحقيق مذكرة توقيف وجاهية بحق حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، إثر الادعاء عليه في قضايا اختلاس أموال. قاضي التحقيق حدد جلسة أخرى لاستكمال استجوابه وأفضت إلى بقائه موقوفاً حتى اليوم. وتزامناً شهد الشهر نفسه تطورات أمنية دراماتيكية أفضت إلى اندلاع مواجهة كبرى ومباشرة بين "حزب الله" وإسرائيل. أستُهلّت بحادثة "البايجر" التي شغلت العالم قاطبة... فجعلت الحرب ملف سلامة في آخر سلّم الأولويات في لبنان رسمياً وشعبياً. تزامناً أيضاً، كان مصرف لبنان يراكم الاحتياطيات التي ارتفعت بين شباط ونهاية أيلول إلى رقم قياسي وصل إلى 1.2 مليار دولار.
تشرين الاول: إنّه زمن "اللائحة الرمادية"
قُضي الأمر، وأدرج لبنان على "اللائحة الرماديّة" في موقع "مجموعة العمل المالي" (FATF)، مرفقة بلائحة التزامات يُفترض أن تقوم بها السلطتان النقدية والسياسية في البلاد للخروج من اللائحة، التي تعني أنّ لبنان يواجه ضعفاً شديداً في تدابير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب
مصرف لبنان أخطر المصارف المحلية، في هذا الشهر، بضرورة تسديد 3 دفعات للمودعين المستفيدين من تعاميم السحوبات الصادرة عن "المركزي"، بدل الاكتفاء بدفعة شهريّة واحدة كما هي العادة، وذلك في محاولة لمساعدة اللبنانيين على تحمّل تبعات الحرب الإسرائيلية المدمرة. تلك الدفعات أفضت إلى تراجع احتياطيات مصرف لبنان من 10.85 مليارات دولار في بداية الشهر، إلى نحو 10.5 مليارات دولار في منتصفه، منفقاً ما يصل إلى 354 مليون دولار في أسبوعين، نتيجة تحمّله كلفة السحوبات الإضافيّة.
تشرين الثاني: زمن الخسائر المتناقضة
بداية قدّرها وزير الاقتصاد أمين سلام بما يتراوح بين 15 و20 مليار دولار، وهو ما يفوق الأرقام التي وردت في التقارير والتقديرات كافة. البنك الدولي قدّرها بنحو 8.5 مليارات دولار موزعاً إياها بين خسائر مادية (3.4 مليارات دولار) وأخرى اقتصادية (5.1 مليارات).
أمّا "الدولية للمعلومات" فقدرتها بنحو 11.2 مليار دولار مؤكدة أنّها "غير ناتجة لا عن إحصاءات ولا دراسات إنما تقديرات أولية". في الوقت نفسه، قدّرها وزير المالية يوسف الخليل في حديث لـ"نداء الوطن" بقرابة 4 مليارات دولار، كما قدّرها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) بنحو 2 مليار دولار فقط. وبمعزل عن الرقم الدقيق فإنّ إعادة الإعمار ما زالت معلقة إلى اليوم وبلا أفق.
كانون الأول: الحراك... على أمل انتخاب رئيس
واصل مصرف لبنان السياسية نفسها لناحية الدفع للمستفيدين من التعميمين 158 و166 دفعتين بدلاً من دفعة واحدة. لكنّه أكد أنّها ستكون الدفعة الأخيرة من هذا النوع، مفسحاً المجال أمام واقع سياسي ونقدي جديد، ربّما يُتوّج في جلسة 9 كانون الثاني المقبل بانتخاب رئيس وإعادة تكوين السلطة... وملء الفراغ في التعيينات (وربما بحاكمية مصرف لبنان) على أمل السير بالإصلاحات المنشودة لعودة لبنان مجدداً إلى "سكة التعافي"، خصوصاً مع التغييرات السياسية التي شهدتها المنطقة بدءاً بالانهيار العسكري لـ"حزب الله" ووصولاً إلى سقوط نظام بشار الأسد في سوريا.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك