كتب العميد غازي محمود:
الى جانب المعاناة الإنسانية والاجتماعية التي تسببها الاعتداءات الإسرائيلية المتمادية على لبنان، تُنذر هذه الاعتداءات بتداعيات اقتصادية جسيمة تتعاظم يوماً بعد يوم جراء استمرار العدوان وتوسعه. وكانت هذه التداعيات بدأت مع بداية الاعتداءات في مطلع تشرين الأول/أكتوبر 2023 بفعل ما سببته من دمار في القرى اللبنانية المحاذية للحدود مع الكيان الغاصب. فيما تأتي التداعيات المستجدة في وقتٍ لا يزال لبنان يجر ذيول ازمته المالية والاقتصادية منذ نهاية العام 2019، لتزيد الأوضاع تعقيداً والحلول صعوبة.
إلا أن التطور الأخطر يكمن في توسع العدوان الذي يشنه جيش العدو الإسرائيلي منذ صباح الرابع والعشرين من أيلول/سبتمبر المنصرم، كونه الأشرس والأكثر كثافة على لبنان منذ بدء المواجهات مع "حزب الله" قبل نحو عام، والذي تسبب بنزوح قُرابة المليون ومائتي الف شخص. فيما لا تقتصر موجات النزوح على النزوح الداخلي وحسب، بل تشمل نزوح قُرابة الـ 90 ألف لبناني وما يزيد على 230 الف سوري الى سوريا.
فيما شهدت حركة المغادرة عبر مطار بيروت الدولي يوم الثلاثاء 8 تشرين الأول، ارتفاع عدد المغادرين الى 5666 مغادر فيما يقتصر عدد القادمين على 800 قادم بحسب تقدير الباحث في المؤسسة الدولية للمعلومات محمد شمس الدين. وقد أدت موجات النزوح إلى تعطيل الاقتصاد في الكثير من المناطق والمحافظات اللبنانية، مع توقعات بزيادة أعداد النازحين خلال الفترة القليلة المقبلة.
أما عدد شهداء الاعتداءات الإسرائيلية فقد تخطى الـ 2100 شهيداً بينهم ما يزيد على 130 طفلاً و300 امرأة وإصابة ما يزيد على الـ 10 آلاف شخصٍ آخرين بجروح مختلفة منذ بدء العدوان الإسرائيلي على لبنان، وفق حصيلة أعلنها مركز عمليات طوارئ الصحة العامة التابع لوزارة الصحة العامة اللبنانية، يوم الثلاثاء في الثامن من تشرين الأول الحالي.
ويُشكل حجم الدمار الذي يُلحقه العدوان في المنازل والمجمعات السكنية في القرى والبلدات المستهدفة وفي الضاحية الجنوبية لبيروت، أحد أخطر تداعيات هذا العدوان الاقتصادية بأبعادها الإنسانية والاجتماعية. وكان حجم الدمار في الجنوب تجاوز الـ 2 مليار دولار أميركي، بحسب متحدث باسم الأمم المتحدة في الأول من تموز الماضي. فيما من المتوقع أن تبلغ حصيلة الاعتداءات الأخيرة أضعاف خسائر الأشهر العشرة الأولى من المواجهات، مع استهداف أحياء ومجمعات سكنية برمتها وتسويتها بالأرض.
ويطرح حجم الدمار المتعاظم مسألة تعاظم تكلفة إعادة اعمار ما تهدم، في الوقت الذي يفتقر فيه لبنان الى الحد الأدنى من القدرات المالية والاقتصادية التي تتطلبها معالجة نتائج العدوان في ظل استمرار ازمته المالية والاقتصادية المتفاقمة. سيما وأن العدوان الأخير تسبب بتراجع النمو الاقتصادي الى أقل من 0.5 بالمئة بعد أن كان من المتوقع أن يزيد على الـ 2 بالمئة في العام 2024. ومن المتوقع أن يتراجع الناتج المحلي الإجمالي الى اقل من 18 مليار دولار جراء الخسائر التي لحقت بالقطاعات الاقتصادية المختلفة.
وكان القطاع السياحي بمرافقه المختلفة من فنادق ومطاعم ومؤسسات ترفيهية في مقدمة القطاعات المتضررة من الاعتداءات الإسرائيلية، حيث تراجعت نسبة إشغال الفنادق وانخفض عدد رواد المطاعم ومؤسسات الترفيه. وشكلت تطورات النصف الثاني من صيف الـ 2024 سبباً لإلغاء حجوزات المغتربين واختصار اجازات من قَدِم منهم خوفاً من توسع العدوان ووقف الرحلات. مع العلم أن السياحة تمثل حوالي 20 بالمئة من حجم اليد العاملة وما يقرب من 26 بالمئة من إيرادات الحساب الجاري، وفقا لوكالة التصنيف الائتماني "ستاندرد اند بورز غلوبال".
وتقدّر "ستاندرد اند بورز" أن مجرد انخفاض عدد الوافدين بنسبة 10 بالمئة سيكلف الاقتصاد اللبناني 3.3 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، أي ما يزيد على الـ 5 مليارات دولار. فيما كانت إيرادات هذا القطاع تتراوح بين 5 و7 مليارات دولار أميركي سنوياً، في حين أنه في حال بلغت نسبة انخفاض عدد القادمين الى لبنان الى 70 بالمئة ستبلغ كلفته ما لا يقل عن 22.9 بالمئة. هذا بالنسبة الى القطاع السياحي وحده ناهيك عن الخسائر التي قد تلحق بالقطاعات الاقتصادية الأخرى.
بدوره مُنيَ القطاع الزراعي بخسائر مباشرة جراء العدوان الإسرائيلي على لبنان، لا سيما في الجنوب والبقاع حيث اتبع العدو أسلوب الأرض المحروقة واستخدم قنابل الفوسفور المحرمة دولياً. الامر الذي حال دون جني المواسم الحالية وحرم المزارعين من إيراداتها، كما جعل هذه الأراضي غير صالحة للزراعة في المدى المنظور ورفع من كلفة استصلاحها في المستقبل. وتبلغ خسائر القطاع الزراعي، بحسب تقدير وزير الاقتصاد اللبناني في تصريح له لمحطة الجزيرة الفضائية، خلال الثمانية أشهر الماضية بنحو 3 مليارات دولار، فيما يتوقع أن تكون قد تضاعفت اليوم.
أما القطاعين الصناعي والتجاري في الجنوب، فقد مُنيا أيضاً بخسائر كبيرة جراء العدوان الاسرائيلي المستمر حيث بلغ عدد المؤسسات المدمرة ما يزيد على الـ 200 مؤسسة حتى شهر آب الماضي، وفق تقدير الباحث محمد شمس الدين. فيما الحقت الاعتداءات الأخيرة الدمار التام بعدد كبير من المؤسسات الصناعية والتجارية في الضاحية الجنوبية لبيروت، حيث من الصعب تقدير حجم هذه الخسائر في ظل تعذر اجراء المسح الميداني مع استمرار الهجمات العدوانية.
وكان لتحويلات المغتربين اللبنانيين نصيبها في التراجع جراء العدوان الإسرائيلي المتمادي، حيث تسبب انخفاض عدد القادمين الى لبنان بحرمانه من مساهمتهم المباشرة في الدورة الاقتصادية بالإضافة الى ما يوفرونه من تدفقات نقدية مباشرة. وكان البنك الدولي قدر هذه التحويلات بـ 6.4 مليار دولار في العام 2023، أي ما يعادل 23.4 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. فيما يبلغ الرقم الحقيقي أعلى من ذلك بكثير، ذلك أن الجزء الاكبر من التحويلات يتدفق نقداً الى لبنان دون المرور بالمصارف ومؤسسات التحويل.
إن استمرار العدوان الإسرائيلي على لبنان يزيد من تكلفتها المالية وتداعياتها الاقتصادية، فيما لا تزال ازمته المالية والاقتصادية جاثمة دون حلول. ومن نافل القول أن السبيل الوحيد للحد من تداعيات العدوان الإسرائيلي على لبنان هو الوقف الفوري لإطلاق النار، ذلك أنه لا طائل من استمرار دوامة العنف التي لن تؤدي إلا الى مزيد من الخسائر المادية والبشرية. ولا بد من أن تتولى الدولة اللبنانية مسؤولية وقف اطلاق النار وتكفله بواسطة مؤسساتها العسكرية والأمنية في مقابل تكفل المجتمع الدولي لجم العدوان الإسرائيلي على لبنان وكبح جماحه.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك